كنيدي والسوفيت
كان على كنيدي وهو يمارس دوره كرئيس
جديد للولايات المتحدة ان يتعامل بحذر مع العالم الشرقي، لاسيما وانه ورث تركة
ضخمة من المشاكل من سلفه آيزنهاور، وواجه قسما آخر في بداية فترة رئاسته تمثلت
كلها في ثلاث أزمات خطيرة.. فيتنام، برلين وكوبا.
في فيتنام كان مترددا والأزمة تزداد
تعقيدا، فأميركا لم تحسم الموقف العسكري فيها ولا السياسي وليست هناك بوادر
لانتهائها، ويبدو أن كنيدي لم يكن له تصور كاف عن الأزمة، فقد ظن ان انهاء الحرب
لصالحه يكمن في المزيد من القوات. ووفق هذا التصور زاد حجم القوات الأميركية
المتدخلة في فيتنام فأزدادت المشكلة تعقيدا، ولتصبح فيتنام بعد ذلك كابوس البيت
الأبيض.
وفي برلين، كانت المفاوضات على اشدها
بينه وبين السوفيت. فالطرفان يريدان حل الأزمة، لكن كل حسب تصوره الخاص، وهي
الحالة التي لا يمكن ان تتحقق، فما يريده أحدهما يرفضه الآخر. وإذا كان خروشوف
متعجلا أكثر في انهائها، فإن كنيدي كان أقل منه عجالة. لقد أراد أن يحلها في أجواء
هادئة بعيداً عن المشاكل، ودون المرور في نقاط تزيد حدة التوتر مع السوفيت.
أمام هذه البرود من جانب كنيدي، حل
خروشوف أزمة برلين على طريقته الخاصة، فلقد بني الجدار الفاصل بين الألمانيتين
ليعزل الخاضعة له عن تلك الخاضعة لأميركا. وبالرغم من كون حل خروشوف سريعا
ومفاجئا، إلا انه وضع حدا لمفاوضات طويلة بينه وبين كندي، كانت تنتهي دائماً جواء
متشنجة يرجع على أثرها الروسي حاد المزاج، ويعود الأميركي متشائما من عواقبها.
وإذا كان تصرف كنيدي مع الأزمتين
(فيتنام وبرلين) منسجما مع الخط العام للسياسة الأميركية إلى حد ما ولم يخرج عن
هذا الخط إلا ببضع خطوات في الأزمة الثانية، فإن تعامله مع كوبا بدأ بالسير تماما
في هذا الخط، وانتهى بالابتعاد تماما عنه.. في البداية استخدم القوة العسكرية..
وفي النهاية رفضها.
في البداية جهز حملة لاحتلال كوبا من
جيش من الساخطين على سلطة كاسترو. تلك الحملة المشهورة بخليخ الخنازير والتي انتهت
بالفشل.
ثم كانت هناك بداية عسكرية أخرى، لعلها
أهم قضية تميزت بها فترة رئاسة كنيدي، بل هي أهم مرحلة بين الاستكبارين الشرقي
والغربي، إذ وصلت فيها العلاقة إلى أقرب مسافة من نقطة الانفجار المدمرة ثم عادت
الأمور فهدأت، لكنه الهدوء الذي أفرز صيغا جديدة من التعامل بينهما ففي 22 تشرين
الأول 1962 اكتشفت المصادر التجسسية الأميركية ان هناك قواعد للصواريخ النووية المتوسطة
المدى يقوم بانشائها الاتحاد السوفيتي. وهنا أحس كنيدي بخطورة الخطوة السوفيتية
على أمن بلاده. لقد اخترق السوفيت استراتيجيه من الخلف. وهو التهديد الذي لم تكن
تفكر به أميركا. فطيلة السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية كان اهتمام واشنطن
منصبا على تقوية دفاعات اوروبا الغربية، باعتبارها الجبهة التي تقف بتماس مع خطوط
الروس.
لقد كان رد كنيدي على هذا التهديد يتسم
بالعنف حيث فرض حصارا على كل المعدات الهجومية التي تشحن إلى كوبا. كما فرض رقابة
مشددة على كل البواخر المتجهة نحوها ثم انه جعل المسألة في غاية الخطورة عندما
اعتبر أن هذه الصواريخ بمثابة إداة الهجوم السوفيتي على اميركا وحليفاتها الغربيات
وهو مالا يمكن الوقوف ازاءه بدون حراك.
ومن الطبيعي ان إجراء كهذا يعني
الاستعداد للحرب، ويعني بتعبير أكثر وضوحا أن العملاقين قد وقفا وجها لوجه،
والاحتمال الأكثر رجاحة من وقوفها هو الانتحار في حرب نووية.
لكن خروشوف الذي استنفر قواته أيضاً،
أراد أن يهدئ واشنطن، ولعل خوفه كان الباعث على ذلك. فقدم جملة اقتراحات إلى كنيدي
بعد أربعة أيام من اشتعال الأزمة، يعده فيها أن الصواريخ السوفيتية سوف تسحب من
كوبا فيما لو تعهد بعدم غزوها. أمام هذا العرض المغري وقف كنيدي مترددا بعض
الوقت.. هل يجيب بالإيجاب على اقتراح خروشوف؟ أم يبقى متعنتا كما يريده مستشاروه؟
كنيدي اختار الرد الموجب على الصمت
المتعنت، لقد أبدى استعداده في حل الأزمة من خلال هذا الأسلوب، فتعهد بعدم غزو
كوبا.. وسحبت موسكو صواريخها. وبذلك انتهت أخطر أزمة في تأريخ العلاقة بين القوتين
الاستكباريتين، كادت أن تعلن الحرب العالمية الأخيرة.
تعامل كنيدي مع أزمة الصواريخ بعقلانية
ـ كما وصفه الروس ـ فلقد كان حريصا على ان لا يصعد الموقف العسكري لأنه أدرك خطورة
مثل هذه الخطوة، لما قد يترتب عليها من مواجهة محققة بين واشنطن وموسكو. غير أن
عقلانية كنيدي لم تكن لتنسجم مع زعماء الكونغرس الذين عاب قسم منهم على رئيسهم عدم
لجوئه إلى العنف بشكل كامل، ووصفه الآخرون بأنه كان خائفاً لأنه اتخذ موقفا في
غاية الضعف عندما حاصر كوبا فقط. اما هو فقد أدرك مسبقا أن رد الأميركيين سيكون
بهذه الحدة، ومع ذلك تصرف حسب قناعته متوخيا عدم إثارة السوفيت أو حتى إشعارهم ان
عليهم أن يزيدوا من قوة ردود فعلهم على اعتبار ان امنهم القومي يلزمهم بذلك.
ويبدو ان معارضي كنيدي كانوا نصف مصيبين
ـ كما كان هو نصف مخطئ ـ فخروشوف كان خوفه من الحرب النووية يفوق خوف كنيدي منها.
ولعل أبرز دليل على ذلك عرض سابق قدمه خروشوف لكنيدي مفاده أن موسكو مستعدة لسحب
صواريخها من كوبا فيما لو سحبت واشنطن صواريخها من تركيا. ثم خفف هذا العرض إلى
مجرد وعد أميركي بعدم غزو كوبا. لأنه عرف أن واشنطن لا يمكن أن تستجيب بسهولة لهذا
الطلب رغم كونه منطقيا في حسابات اللعبة الدولية. ومع ذلك أغمض خروشوف عينه عن هذه
الحقيقة المنطقية تحت تأثير خوفه من شبح الحرب النووية. ولقد كان عرضه في غاية
البساطة إضافة إلى انه يحمل طابع التراجع أمام القوة الأميركية. ومن الطبيعي أن تفك
أمريكا حصارها عن كوبا، وأن تمتنع عن غزوها. فكنيدي أساساً كان يرفض فكرة غزوها
بعد فشله القديم وخوفه الجديد، إذن من الطبيعي ان تستجيب واشنطن لاقتراح موسكو،
لأن الإجراءات التي اتخذتها انما هي نتيجة نصب الصواريخ السوفيتية في كوبا، التي
لو لاها لما كان هناك حصاراً وتهديد، المهم ان خروشوف قدم عرضا او بالأحرى تنازلا
بدون مقابل.
والمهم ايضا، ان رجال البيت الابيض
كانوا مصيبين بعض الشيء، لأنهم شخصوا الخوف الروسي الكبير، وارادوا اجراءات
اميركية ضخمة على اساس ذلك الخوف. بالتأيد كان هؤلاء المغامرون يطمحون إلى مكاسب جديدة
لو هدد رئيسهم باسلوب اكثر عنفا، وربما تتحقق طموحاتهم وتتحقق المكاسب بدل أن
تنتهي الأزمة بمكسب واحد فقط، هو سحب الصواريخ من كوبا.
صحيح ان الأوضاع عادت إلى الحالة التي
كانت عليها قبل نصب الصواريخ على صعيد الوضع الاستراتيجي، لكن هذه العودة أثبتت
عدة حقائق كانت غائبة في الفترات السابقة.
الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لا
تتعرض من الجهة الشرقية فقط للتهديد النووي السوفيتي، بل ان هناك مواقع أخرى يمكن
أن يهدد منها السوفيت وربما بخطورة أكبر، لأن أميركا والغرب ستصبح بين فكي الكماشة
النووية.
التوسع السوفيتي يكون خطرا فيما لو سقطت
دولة بأيدي الشيوعية، تتمتع بموقع إستراتيجي بالنسبة للمعسكر الغربي ولأميركا على
وجه التحديد، إذ ستفقد الولايات المتحدة نتيجة هذا التحول الكثير من مستلزماتها
الأمنية، وتصبح حالتها كحالة أوروبا الغربية، ساحة دمار في أية مواجهة نووية
مقبلة.
السوفيت لا يفكرون بطريقة مكشوفة
وتعهداتهم غير صادقة، ولهم بعد مستقبلي في التفكير التوسعي للوصول إلى مركز متقدم
في الميزان الدولي.
أمن الولايات المتحدة أهم بكثير من أمن
حلفائها، فلو هدد الأمن الأميركي، لربما أقدمت واشنطن عل خطوة لا تؤمن عقباها،
خصوصا إذا انتصر المغامرون على المتحفظين. لكن هل تقدم واشنطن على نفس الخطوة إذا
تعرض الأمن الاوروبي للخطر؟
وإذا كانت الاوضاع قد عادت إلى حالتها
الأولى، على الصعيد الاستراتيجي فانها لم تعد على الصعيد السياسي لافي داخل أميركا
ولا حتى في علاقاتها الخارجية. فقد أثبتت الأزمة ان لعبة خطرة قد تحدث فيما لو فقد
الرئيس توازنه، واستجاب لالحاح رجاله، وأثبتت أيضا أن الخصم عندما يكون هو
المبادر، فإن مخاوفه من الشبح النووي تفوق مخاوف الطرف الآخر، ولذا فانه يكون
مستعدا للتفاوض والتنازل من أجل مكسب ضئيل أو حتى بدون مكسب، وأن بامكان الطرف
الآخر أن يكون هادئا وشرسا في نفس الوقت. هادئا يتحرك دون ردود فعل ويضبط أعصابه
للنهاية فيما لو أراد المزيد من المكاسب، وشرسا يهدد بتصعيد الموقف، ولكن في
الحدود التي يقيس بها بدقة ان المهاجم خائف، ومخاوفه تزداد مع كل خطوة جديدة، ومع
ذلك عندما يصبح الخوف ذا نتائج عكسية، فإنه يدفع صاحبه إلى الانتحار.
كذلك اثبتت الأزمة ان الحل السريع له
نتائج جيدة، ففي ساعات الخوف تسهل كلمة التفاوض والقبول، وتستبعد كلمات الرفض
والتعنت.
والحقيقة الأخيرة المستخلصة من أزمة
الصواريخ، ان الطريق نحو ما يسمى بالوفاق سالك فليمض فيه المستكبران.
لنعد ثانية إلى بداية الموضوع.. لقد
تعامل كنيدي في فترة حكمه مع ثلاث أزمات (فيتنام، برلين وكوبا) في الأولى زاد تورط
اميركا عسكريا وسياسيا. وفي الثانية تردد فجاء الحل من خصومه وليس منه. وفي
الثالثة وهي الأهم تحفظ فكانت النتائج العودة إلى ما قبل الأزمة.
فإذا رضي شيوخ واشنطن على تصرفه الأول،
فانهم لم يرضوا كما لم يسخطوا من تصرفه الثاني، لكنهم غضبوا من التصرف الأخير، ثم
زاد غيضهم بعد أزمة كوبا. فقد بدا واضحا الأسلوب الذي يفكر به كنيدي، حيث اعتبر ان
الإقدام على طوات عسكرية ضخمة، عمل غير عقلاني. كما اعتبر أن هناك طرقا يمكن
سلوكها للوصول إلى صيغة مرضية مع لاسوفيت، وبذلك يكون قد خالف بعض مرتكزات الاتجاه
العام للسياسة الأميركية، والذي يحاول ان يحقق مكاسب خارجية من خلال الأزمات لامن
خلال حلها وهو رقم قياسي (6 أيام) أن تحل فيه أزمة خطيرة كأزمة الصواريخ.
ومع أن كنيدي لا يخرج عن خط السياسة
الأميركية، من حيث الهدف في بسط النفوذ الاستكباري لها على الشعوب المستضعفة،
والمراهنة بأمنها ومستقبلها من أجل هدف واشنطن، إلا انه اختلف معه من حيث بعض
الأساليب لا كلّها. فهو في الوقت الذي رفض العمل العنيف مع السوفيت، كان قد أرهق
الميزانية الأميركية ببرامجه التسليحية، حيث ازدادت قوة أمريكا خمس مرات. وهو حين
لا يريد إشعار الروس بضرورة زيادة قواتهم، يجعلهم بالنتيجة وعلى أثر اسلوبه
التسلحي، جاهدين من أجل اللحاق بالقوة
النووية الأميركية. وهو عندما ينادي بالحرية والسلام الدوليين، يربط الحرية
والسلام بقوة أميركا العسكرية فلو تراجعت هذه القوة لاختفت الحرية ولغاب
السلام.
والخلاصة، ان كنيدي حسب قناعة رجال
البيت الأبيض ضيع عليهم فرصا كثيرة، وهناك فرص من المؤكد أن تضيع لو عمل بتصوراته
الخاصة. وهم لن يغفروا له تورطه في موقف، وتردد ازاء آخر، وفشله في ثالث ـ حسب
تقديرهم لما يمكن ان يتحقق ـ كما أنهم لن يسامحوا رئيسهم على آرائه التي أعلنها
أمام الملأ وأبرزها، أن الروس لا يمكن أن يكونوا الاعداء الدائميين للأميركان.