كتاب الأزمات والقرن الحادي والعشرون
جاك لوسورن
عرض ومناقشة : محمد مخلوف
البيان 5/9/2009
عرض ومناقشة : محمد مخلوف
البيان 5/9/2009
العالم يواجه أزمات تفرض مراجعة جديّة للمفاهيم
تشهد البشرية مع
بداية هذا القرن الحادي والعشرين
منعطفا حادا في مسيرتها كثمرة لما أنجزه التقدّم العلمي والتكنولوجي خلال
العقود الأخيرة وما يفوق
ما حققته خلال تاريخها الطويل. والعالم يتبدّل، فثرواته التي كانت تبدو لا نضوب لها أدرك الجميع أنها محدودة بينما يتزايد
عدد سكانه. إن البشرية كانت تعدّ حوالي مليار
ونصف نسمة في عام 1900 وسيصل العدد إلى حوالي 9 مليارات في أفق عام 2050.
وإذا كانت أوروبا والولايات المتحدة قد شكّلتا مركز العالم منذ القرن السابع عشر فإن مركز الثقل يميل اليوم نحو آسيا الصاعدة.هذا إلى جانب بروز مخاطر جديدة ليس أقلّها إمكانية استخدام السلاح النووي بينما تستمر مغامرة الإنسان في اكتشاف أسرار جسده وأسرار الفضاء المحيط فيه. وجاءت ظاهرة العولمة كتتويج لمسار بدأ منذ قرون. لقد وفّرت وسائل اتصال هائلة لكنها زادت أيضا من قلق الإنسان المشدود بين الماضي والمستقبل «المجهول». وهذا يستدعي التأمّل العميق.
يعلن القرن الحادي والعشرون بداية مرحلة جديدة مختلفة عمّا سبقها في تاريخ الإنسانية. هذا ما يبدأ به جاك لوسورن حديثه عن القرن الحالي. ويشير إلى أنه يكفي للتدليل على ذلك ملاحظة أن ما أصبح واقعا نعيشه ونعايشه لم يكن موجودا أو أنه كان في بدايات ظهوره في القرن الماضي «العشرين».
العالم يعيش اليوم عصر الانترنت والهاتف المحمول والتلفزيون الذي ينقل كل ما يجري في الدنيا من أحداث عند لحظة وقوعها. والمسافات التي كان يحتاج الإنسان إلى شهور لقطعها أصبحت لا تحتاج سوى لبضع ساعات. القائمة طويلة ، كما يقول لنا المؤلف.
إن التسارع هو أحد سمات العصر والمعلومات يتم تبادلها في لحظة. وفي مثل هذا السياق من التطوّر السريع لأسعار صرف العملات وتعاظم عمليات المبادلات المالية في ظل حريّة حركة رؤوس الأموال برزت الأزمة المالية العالمية في خريف العام الماضي كي تعيد إلى الأذهان أزمة عام 1929 التي ساهمت في خلق الأجواء التي قادت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية.
واليوم يلوح أفق نضوب الموارد البترولية والغازية بعد فترة «الأجداد» التي كان يسود فيها الاعتقاد أنه لا نضوب لها. والمناخ الذي كان يبدو معطيً نهائيا لأهل كوكبنا بدأ يعرف بعض التغيّر بفعل نشاطات البشر.
تحديات جديدة
إن البشرية التي كان عدد أبنائها 1، 5 مليارات نسمة حوالي عام 1900 من المتوقع أن يبلغ عددها 9 مليارات نسمة في أفق عام 2050، أي بزيادة 50 بالمائة قياسا بعام 2000. ومنذ القرن السابع عشر شكّلت أوروبا ثمّ أوروبا والولايات المتحدة معا مركز العالم. وكان الازدهار الذي عرفته الحضارة الأوروبية قد ترك آثاره على التاريخ الإنساني كلّه. لكن هناك اليوم تبدّل باتجاه صعود آسيا. وفي نهاية هذا القرن الحادي والعشرين سوف تأتي هذه القارّة أغلبية الدخل العالمي. وقد تلجأ كتب التاريخ المدرسية مستقبلا إلى تحديد الألعاب الأولمبية التي نظّمتها بكّين في عام 2008 كرمز لهذا التحوّل في مسيرة الإنسانية.
وفي المحصّلة يرتسم عالم محفوف بالمخاطر التي ليس أقلّها خطر استخدام السلاح النووي وغيره من الأسلحة الفتّاكة واحتمال تعاظم الإرهاب وانتشار أوبئة قد تودي بحياة قسم من البشر. وما يراه المؤلف هو أن القرن الحادي والعشرين ، وإلى جانب استمرارية التحديات التي طرحها القرن العشرين، سوف يطرح مجموعة من الأزمات الجديدة التي تتطلّب مراجعة جديّة وعميقة لمفاهيمنا السائدة.
أفق النضوب
كانت تسود حتى القرن السابع وبدايات عصر العلم الحديث والثورة الصناعية الكبرى فكرة مفادها أن ما تحتوي عليه الطبيعة من ثروات سيبقى إلى ما لا نهاية. لكن أصبح البشر بعد أربعة قرون وبفضل العلم والتقنيات يدركون أن أفق نضوب هذه الثروات سيأتي ذات يوم.
على صعيد المكان وصل الإنسان إلى القمر ويستقرئ مؤلف هذا الكتاب أنه سوف يصل في غضون عقود قادمة إلى كوكب المرّيخ. وبالإضافة إلى ذلك الإنجاز العلمي الكبير أدرك البشر أنهم يعيشون على الكوكب الأرضي الذي لا يشكل سوى جزء شديد التواضع من المنظومة الشمسية. وجزء يشبّهه المؤلف بـ «كوخ في أطراف غابة».وبالتوازي أدّى اكتشاف جزيئات المادة والذرّات إلى إدراك أن ما هو متناهي في الصغر يمكنه أن يكون أيضا في منتهى الفاعلية.
على مستوى الزمن أظهر العلم أن عمر الأرض التي نعيش عليها يقارب الـ 4، 5 مليار سنة. وأحرزت جميع المشارب العلمية تقدما كبيرا ساهم في زيادة المعارف الإنسانية حول جيولوجية الأرض وتطوّر الجنس البشري.وهكذا أصبح للزمن مفهوم محدد مثلما للمكان مفهوم محدد.
وبناء على المعطيات العلمية المتوفّرة يرى المؤلف أنه من الصعب عدم القناعة بهشاشة الجنس البشري ذاته وأن زواله يلوح بعد مليار سنة في أبعد تقدير عندما «ستبتلع» الشمس الكوكب الأرضي. بل ربما قد يزول قبل ذلك بفعل ظواهر طبيعية استثنائية قد تنهي الحياة على الأرض ؛أو ربما قد تقع الإنسانية ضحيّة وباء جديد لن تستطيع السيطرة عليه ؛ أو احتمال آخر هو أن يكون البشر أنفسهم وراء أفعال تنهي وجودهم.
وما يتم تأكيده في هذا السياق هو أن الإنسان المعاصر يعيش حالة من القلق بسبب إدراكه لمحدوديته. ثمّ أن الأجيال المتعاقبة ستحتاج إلى قرون كي تتمثّل بشكل كامل مدى عمق الاكتشافات التي عرفتها الإنسانية خلال القرون الأخيرة، ذلك خاصة على مستوى علوم المورثات وغيرها من ميادين علم الأحياء. ويتم التأكيد أيضا في هذا السياق على أن مواقف البشر ليست متماثلة حيال هذه المسائل كلّها ، بل لا تتماثل بين الأفراد داخل الفضاء الثقافي الواحد.ويشير المؤلف هنا إلى أنه يكتب من موقعه كأوروبي ولكن أيضا كإنسان يهمّه مصير العالم.
قلق العولمة
وإذا كان إدراك الإنسان المعاصر لمحدوديته يشكل مصدرا لقلقه فإن المؤلف يحدد مصدرا آخر لهذا القلق وهو العولمة. ويحدد مسيرة العولمة اعتبارا من القرن السادس عشر.لكنها سادت خلال العقود الأخيرة من خلال الثورات في عالمي المواصلات والاتصال. وإذا كانت مملكة لويس السادس عشر تحتاج في القرن السابع عشر إلى عدّة أسابيع لاجتيازها من طرف إلى آخر فإن هذه المسافة لا يتطلّب قطعها اليوم سوى أكثر قليلا من ساعة واحدة.
ويرى المؤلف أنه رغم تعاظم سبل التواصل بين البشر لا يزال جهل الآخر وثقافته وتاريخه وأدبه وقيمه هو السمة السائدة، ذلك حتى لدى أصحاب القرار الغربيين.المثال الصارخ الذي يتم تقديمه هو مدى جهل الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الذي اعتقد أن العراقيين سوف ينصبون له التماثيل في الشوارع. ولا شك أن جهل مواطني البلدان الغربية هو أكبر من جهل رؤسائهم.
وأمام القلق الذي يعاني منه الإنسان المعاصر يتم تحديد ثلاثة مواقف يتخذها الغربيون. الموقف الأول هو الانكفاء المحلّي خلف حدود الأمس أو خلف حدود الاتحاد الأوروبي بالنسبة لأبناء القارّة القديمة. ومعارضة الهجرة، هذا مع مطالبة الصينيين وغيرهم من سكان العالم بشراء طائرات الغرب من أجل قبول شراء نتاجهم.وإذا كان هناك قلائل يصرّحون بذلك علانية فان كُثرا يفكّرون فيه بداخلهم.بل ويتأسفون على الحقبة الاستعمارية حيث لم يكن يعكّر صفو الغرب أحد.
والموقف الثاني هو قبول العولمة مع إرادة أن تكون على طراز آخر، والمطالبة بنظام عالمي آخر ينهي المؤسسات الدولية القائمة. الأكثر راديكالية يطالبون بثورة عالمية.بكل الحالات يرى المؤلف أن الطريق مسدود أمام هؤلاء «الحالمين». والموقف الثالث يؤكّد على أهمية التأقلم مع العولمة والمساهمة في ازدهار أكبر عدد ممكن من البشر والمحافظة على بيئة الكوكب الذي نعيش عليه.لكن ترجمة مثل هذا الموقف على أرض الواقع مستقبلا تتطلّب مكافحة خطرين يحددهما المؤلف بـ « التخلّف في العقليات» و»خطر النزعات الطوباوية» التي لا تفهم الواقع.
بين الماضي والمستقبل
تتنضد طبقات الأرض على مدى آلاف السنوات، ومثلها ذاكرات المجتمعات. ولا شك أن سماكة هذه الشريحة أو تلك من الذاكرة المتكوّنة عبر تاريخ طويل تختلف حسب الظروف وحسب الأفراد. وبناء على دراسة الإرث التاريخي للشعوب الأوروبية يبيّن المؤلف كيف أن هذا الإرث لا يساعد دائما في فهم تحديات القرن الحادي والعشرين.
ورغم النفق الذي جرى بناؤه بين فرنسا وانكلترا تحت بحر المانش فإن الفرد البريطاني يعتبر نفسه غالبا من سكان جزيرة استطاعت أن تحافظ على وحدتها واستقلالها منذ عام 1066 رغم محالات اجتياحها من قبل الفرنسيين والأسبان والألمان. والبريطاني ، كما يتم قديمه، تحرّكه المصالح وحدها وهو يقيم تحالفاته مع بلدان القارّة الأوروبية على أساسها.
هكذا عملت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية بسبب التهديد السوفييتي على إعادة تعمير فرنسا التي دمّرتها الحرب وعلى التقارب الفرنسي ـ الألماني دون أن تساهم في إنشاء المجموعة الأوروبية الموحّدة.لكن بعد نجاح هذه المجموعة اعترى بريطانيا الخوف وعملت كل شيء من أجل الانضمام إليها والسيطرة عليها من الداخل. لكن تبقى الأولوية بالنسبة إلى بريطانيا هي التحالف مع واشنطن إلاّ في بعض المناسبات النادرة والقصيرة. ويرى المؤلف أن البريطانيين، ورثة البحّارة والتجار والمقاولين، هم الذين يعود إليهم الفضل الأساسي في قيام الثورة الصناعية وإرساء قواعد الاقتصاد الحر.
أمّا بالنسبة للولايات المتحدة، ورغم كل ما يقال عن الجذر الانكلوسكسوني ، فإن الأميركي مهما اختلفت مشاربه الأصلية الأوروبية أو الإفريقية أو الآسيوية أو الأميركية ـ اللاتينية ومهما كان سبب قدومه إليها بحثا عن هامش أكبر من الحرية أو بدافع اقتصادي أو جلبوه قسرا كأحد العبيد يعتبر نفسه من أبناء الهجرة. وكانت الولايات المتحدة تتأرجح طيلة العقود الأخيرة بين الرغبة في عيش مغامرتها الخاصّة بعيدا عن العالم الخارجي ومشاكله وبين الرغبة في تنظيم العالم على صورتها وتخليصه تحديدا من الشيوعية. ومن هنا يأتي «اللون الخاص» الذي أخذته الامبريالية الأميركية منذ عام 1945 ، حسب تعبير المؤلف، بالقياس إلى الامبرياليات الأخرى التي عرفها التاريخ.
خصوصيات الشعوب
ويشير المؤلف في هذا السياق إلى أنه يمكن الحديث عن خصوصيات مختلف الشعوب الأخرى من اسبان وألمان وصينيين وعرب وغيرهم. لكن ما يريده من ذلك هو التأكيد على وجود رؤيات متباينة وأحيانا متنافرة للعالم تكدّست عبر التاريخ القريب أو البعيد. وهذا التباين أو التنافر يجعل التحليلات الخاصة بالقرن الحادي والعشرين مشوشة ويدفع نحو الهروب إلى حلول «خيالية» بعيدة عن الواقع.
و»الحلول» التي قد تبرز بالنسبة للقرن الحالي لها باستمرار علاقة مع مفاهيم إيديولوجية وهي تتراوح بين تلك التي قد تريد حل مشاكل العالم بطرق جذرية مثل المجازر الجماعية واستبعاد مجموعات بشرية في إطار ممارسات عنصرية. وما يؤكده المؤلف هو أن هذا القرن ليس محميا من مخاطر بروز مثل هذه الإيديولوجيات.
أمّا أنصار السلام في العالم فيجدون الحل في نزع شامل للأسلحة. هؤلاء يجهلون كما يبدو أن نزع الأسلحة مرتبط بقدرة الدول على تخفيض نفقاتها العسكرية دون تخفيض إجراءات حمايتها وشريطة عدم التأثير على موازين القوى.ثم يلعب عامل الزمن دورا هاما في هذا الإطار.
في المحصّلة يصل المؤلف إلى القول إن محاولة فهم مسار المغامرة الإنسانية في حاضرها واحتمالات مستقبلها تتطلّب بالضرورة عدم الوقوع في أسر عقليات الماضي وعدم الانسياق وراء «حلول « طوباوية إيديولوجية قد تكون مدمّرة.وبالاعتماد على هذا يقدّم ما يسميه «خارطة طريق» تخص «الأزمات والقرن الحادي والعشرين» كما جاء في عنوان الكتاب.ويحدد هدفه بالقول :»إنني أسعى إلى تحليل التطورات والأزمات التي قد تبرز في أفق العقود القادمة أكثر مما أبحث عن تقديم سيناريوهات مستقبلية أو رسم دروب المستقبل».
وإذا كانت أوروبا والولايات المتحدة قد شكّلتا مركز العالم منذ القرن السابع عشر فإن مركز الثقل يميل اليوم نحو آسيا الصاعدة.هذا إلى جانب بروز مخاطر جديدة ليس أقلّها إمكانية استخدام السلاح النووي بينما تستمر مغامرة الإنسان في اكتشاف أسرار جسده وأسرار الفضاء المحيط فيه. وجاءت ظاهرة العولمة كتتويج لمسار بدأ منذ قرون. لقد وفّرت وسائل اتصال هائلة لكنها زادت أيضا من قلق الإنسان المشدود بين الماضي والمستقبل «المجهول». وهذا يستدعي التأمّل العميق.
يعلن القرن الحادي والعشرون بداية مرحلة جديدة مختلفة عمّا سبقها في تاريخ الإنسانية. هذا ما يبدأ به جاك لوسورن حديثه عن القرن الحالي. ويشير إلى أنه يكفي للتدليل على ذلك ملاحظة أن ما أصبح واقعا نعيشه ونعايشه لم يكن موجودا أو أنه كان في بدايات ظهوره في القرن الماضي «العشرين».
العالم يعيش اليوم عصر الانترنت والهاتف المحمول والتلفزيون الذي ينقل كل ما يجري في الدنيا من أحداث عند لحظة وقوعها. والمسافات التي كان يحتاج الإنسان إلى شهور لقطعها أصبحت لا تحتاج سوى لبضع ساعات. القائمة طويلة ، كما يقول لنا المؤلف.
إن التسارع هو أحد سمات العصر والمعلومات يتم تبادلها في لحظة. وفي مثل هذا السياق من التطوّر السريع لأسعار صرف العملات وتعاظم عمليات المبادلات المالية في ظل حريّة حركة رؤوس الأموال برزت الأزمة المالية العالمية في خريف العام الماضي كي تعيد إلى الأذهان أزمة عام 1929 التي ساهمت في خلق الأجواء التي قادت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية.
واليوم يلوح أفق نضوب الموارد البترولية والغازية بعد فترة «الأجداد» التي كان يسود فيها الاعتقاد أنه لا نضوب لها. والمناخ الذي كان يبدو معطيً نهائيا لأهل كوكبنا بدأ يعرف بعض التغيّر بفعل نشاطات البشر.
تحديات جديدة
إن البشرية التي كان عدد أبنائها 1، 5 مليارات نسمة حوالي عام 1900 من المتوقع أن يبلغ عددها 9 مليارات نسمة في أفق عام 2050، أي بزيادة 50 بالمائة قياسا بعام 2000. ومنذ القرن السابع عشر شكّلت أوروبا ثمّ أوروبا والولايات المتحدة معا مركز العالم. وكان الازدهار الذي عرفته الحضارة الأوروبية قد ترك آثاره على التاريخ الإنساني كلّه. لكن هناك اليوم تبدّل باتجاه صعود آسيا. وفي نهاية هذا القرن الحادي والعشرين سوف تأتي هذه القارّة أغلبية الدخل العالمي. وقد تلجأ كتب التاريخ المدرسية مستقبلا إلى تحديد الألعاب الأولمبية التي نظّمتها بكّين في عام 2008 كرمز لهذا التحوّل في مسيرة الإنسانية.
وفي المحصّلة يرتسم عالم محفوف بالمخاطر التي ليس أقلّها خطر استخدام السلاح النووي وغيره من الأسلحة الفتّاكة واحتمال تعاظم الإرهاب وانتشار أوبئة قد تودي بحياة قسم من البشر. وما يراه المؤلف هو أن القرن الحادي والعشرين ، وإلى جانب استمرارية التحديات التي طرحها القرن العشرين، سوف يطرح مجموعة من الأزمات الجديدة التي تتطلّب مراجعة جديّة وعميقة لمفاهيمنا السائدة.
أفق النضوب
كانت تسود حتى القرن السابع وبدايات عصر العلم الحديث والثورة الصناعية الكبرى فكرة مفادها أن ما تحتوي عليه الطبيعة من ثروات سيبقى إلى ما لا نهاية. لكن أصبح البشر بعد أربعة قرون وبفضل العلم والتقنيات يدركون أن أفق نضوب هذه الثروات سيأتي ذات يوم.
على صعيد المكان وصل الإنسان إلى القمر ويستقرئ مؤلف هذا الكتاب أنه سوف يصل في غضون عقود قادمة إلى كوكب المرّيخ. وبالإضافة إلى ذلك الإنجاز العلمي الكبير أدرك البشر أنهم يعيشون على الكوكب الأرضي الذي لا يشكل سوى جزء شديد التواضع من المنظومة الشمسية. وجزء يشبّهه المؤلف بـ «كوخ في أطراف غابة».وبالتوازي أدّى اكتشاف جزيئات المادة والذرّات إلى إدراك أن ما هو متناهي في الصغر يمكنه أن يكون أيضا في منتهى الفاعلية.
على مستوى الزمن أظهر العلم أن عمر الأرض التي نعيش عليها يقارب الـ 4، 5 مليار سنة. وأحرزت جميع المشارب العلمية تقدما كبيرا ساهم في زيادة المعارف الإنسانية حول جيولوجية الأرض وتطوّر الجنس البشري.وهكذا أصبح للزمن مفهوم محدد مثلما للمكان مفهوم محدد.
وبناء على المعطيات العلمية المتوفّرة يرى المؤلف أنه من الصعب عدم القناعة بهشاشة الجنس البشري ذاته وأن زواله يلوح بعد مليار سنة في أبعد تقدير عندما «ستبتلع» الشمس الكوكب الأرضي. بل ربما قد يزول قبل ذلك بفعل ظواهر طبيعية استثنائية قد تنهي الحياة على الأرض ؛أو ربما قد تقع الإنسانية ضحيّة وباء جديد لن تستطيع السيطرة عليه ؛ أو احتمال آخر هو أن يكون البشر أنفسهم وراء أفعال تنهي وجودهم.
وما يتم تأكيده في هذا السياق هو أن الإنسان المعاصر يعيش حالة من القلق بسبب إدراكه لمحدوديته. ثمّ أن الأجيال المتعاقبة ستحتاج إلى قرون كي تتمثّل بشكل كامل مدى عمق الاكتشافات التي عرفتها الإنسانية خلال القرون الأخيرة، ذلك خاصة على مستوى علوم المورثات وغيرها من ميادين علم الأحياء. ويتم التأكيد أيضا في هذا السياق على أن مواقف البشر ليست متماثلة حيال هذه المسائل كلّها ، بل لا تتماثل بين الأفراد داخل الفضاء الثقافي الواحد.ويشير المؤلف هنا إلى أنه يكتب من موقعه كأوروبي ولكن أيضا كإنسان يهمّه مصير العالم.
قلق العولمة
وإذا كان إدراك الإنسان المعاصر لمحدوديته يشكل مصدرا لقلقه فإن المؤلف يحدد مصدرا آخر لهذا القلق وهو العولمة. ويحدد مسيرة العولمة اعتبارا من القرن السادس عشر.لكنها سادت خلال العقود الأخيرة من خلال الثورات في عالمي المواصلات والاتصال. وإذا كانت مملكة لويس السادس عشر تحتاج في القرن السابع عشر إلى عدّة أسابيع لاجتيازها من طرف إلى آخر فإن هذه المسافة لا يتطلّب قطعها اليوم سوى أكثر قليلا من ساعة واحدة.
ويرى المؤلف أنه رغم تعاظم سبل التواصل بين البشر لا يزال جهل الآخر وثقافته وتاريخه وأدبه وقيمه هو السمة السائدة، ذلك حتى لدى أصحاب القرار الغربيين.المثال الصارخ الذي يتم تقديمه هو مدى جهل الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الذي اعتقد أن العراقيين سوف ينصبون له التماثيل في الشوارع. ولا شك أن جهل مواطني البلدان الغربية هو أكبر من جهل رؤسائهم.
وأمام القلق الذي يعاني منه الإنسان المعاصر يتم تحديد ثلاثة مواقف يتخذها الغربيون. الموقف الأول هو الانكفاء المحلّي خلف حدود الأمس أو خلف حدود الاتحاد الأوروبي بالنسبة لأبناء القارّة القديمة. ومعارضة الهجرة، هذا مع مطالبة الصينيين وغيرهم من سكان العالم بشراء طائرات الغرب من أجل قبول شراء نتاجهم.وإذا كان هناك قلائل يصرّحون بذلك علانية فان كُثرا يفكّرون فيه بداخلهم.بل ويتأسفون على الحقبة الاستعمارية حيث لم يكن يعكّر صفو الغرب أحد.
والموقف الثاني هو قبول العولمة مع إرادة أن تكون على طراز آخر، والمطالبة بنظام عالمي آخر ينهي المؤسسات الدولية القائمة. الأكثر راديكالية يطالبون بثورة عالمية.بكل الحالات يرى المؤلف أن الطريق مسدود أمام هؤلاء «الحالمين». والموقف الثالث يؤكّد على أهمية التأقلم مع العولمة والمساهمة في ازدهار أكبر عدد ممكن من البشر والمحافظة على بيئة الكوكب الذي نعيش عليه.لكن ترجمة مثل هذا الموقف على أرض الواقع مستقبلا تتطلّب مكافحة خطرين يحددهما المؤلف بـ « التخلّف في العقليات» و»خطر النزعات الطوباوية» التي لا تفهم الواقع.
بين الماضي والمستقبل
تتنضد طبقات الأرض على مدى آلاف السنوات، ومثلها ذاكرات المجتمعات. ولا شك أن سماكة هذه الشريحة أو تلك من الذاكرة المتكوّنة عبر تاريخ طويل تختلف حسب الظروف وحسب الأفراد. وبناء على دراسة الإرث التاريخي للشعوب الأوروبية يبيّن المؤلف كيف أن هذا الإرث لا يساعد دائما في فهم تحديات القرن الحادي والعشرين.
ورغم النفق الذي جرى بناؤه بين فرنسا وانكلترا تحت بحر المانش فإن الفرد البريطاني يعتبر نفسه غالبا من سكان جزيرة استطاعت أن تحافظ على وحدتها واستقلالها منذ عام 1066 رغم محالات اجتياحها من قبل الفرنسيين والأسبان والألمان. والبريطاني ، كما يتم قديمه، تحرّكه المصالح وحدها وهو يقيم تحالفاته مع بلدان القارّة الأوروبية على أساسها.
هكذا عملت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية بسبب التهديد السوفييتي على إعادة تعمير فرنسا التي دمّرتها الحرب وعلى التقارب الفرنسي ـ الألماني دون أن تساهم في إنشاء المجموعة الأوروبية الموحّدة.لكن بعد نجاح هذه المجموعة اعترى بريطانيا الخوف وعملت كل شيء من أجل الانضمام إليها والسيطرة عليها من الداخل. لكن تبقى الأولوية بالنسبة إلى بريطانيا هي التحالف مع واشنطن إلاّ في بعض المناسبات النادرة والقصيرة. ويرى المؤلف أن البريطانيين، ورثة البحّارة والتجار والمقاولين، هم الذين يعود إليهم الفضل الأساسي في قيام الثورة الصناعية وإرساء قواعد الاقتصاد الحر.
أمّا بالنسبة للولايات المتحدة، ورغم كل ما يقال عن الجذر الانكلوسكسوني ، فإن الأميركي مهما اختلفت مشاربه الأصلية الأوروبية أو الإفريقية أو الآسيوية أو الأميركية ـ اللاتينية ومهما كان سبب قدومه إليها بحثا عن هامش أكبر من الحرية أو بدافع اقتصادي أو جلبوه قسرا كأحد العبيد يعتبر نفسه من أبناء الهجرة. وكانت الولايات المتحدة تتأرجح طيلة العقود الأخيرة بين الرغبة في عيش مغامرتها الخاصّة بعيدا عن العالم الخارجي ومشاكله وبين الرغبة في تنظيم العالم على صورتها وتخليصه تحديدا من الشيوعية. ومن هنا يأتي «اللون الخاص» الذي أخذته الامبريالية الأميركية منذ عام 1945 ، حسب تعبير المؤلف، بالقياس إلى الامبرياليات الأخرى التي عرفها التاريخ.
خصوصيات الشعوب
ويشير المؤلف في هذا السياق إلى أنه يمكن الحديث عن خصوصيات مختلف الشعوب الأخرى من اسبان وألمان وصينيين وعرب وغيرهم. لكن ما يريده من ذلك هو التأكيد على وجود رؤيات متباينة وأحيانا متنافرة للعالم تكدّست عبر التاريخ القريب أو البعيد. وهذا التباين أو التنافر يجعل التحليلات الخاصة بالقرن الحادي والعشرين مشوشة ويدفع نحو الهروب إلى حلول «خيالية» بعيدة عن الواقع.
و»الحلول» التي قد تبرز بالنسبة للقرن الحالي لها باستمرار علاقة مع مفاهيم إيديولوجية وهي تتراوح بين تلك التي قد تريد حل مشاكل العالم بطرق جذرية مثل المجازر الجماعية واستبعاد مجموعات بشرية في إطار ممارسات عنصرية. وما يؤكده المؤلف هو أن هذا القرن ليس محميا من مخاطر بروز مثل هذه الإيديولوجيات.
أمّا أنصار السلام في العالم فيجدون الحل في نزع شامل للأسلحة. هؤلاء يجهلون كما يبدو أن نزع الأسلحة مرتبط بقدرة الدول على تخفيض نفقاتها العسكرية دون تخفيض إجراءات حمايتها وشريطة عدم التأثير على موازين القوى.ثم يلعب عامل الزمن دورا هاما في هذا الإطار.
في المحصّلة يصل المؤلف إلى القول إن محاولة فهم مسار المغامرة الإنسانية في حاضرها واحتمالات مستقبلها تتطلّب بالضرورة عدم الوقوع في أسر عقليات الماضي وعدم الانسياق وراء «حلول « طوباوية إيديولوجية قد تكون مدمّرة.وبالاعتماد على هذا يقدّم ما يسميه «خارطة طريق» تخص «الأزمات والقرن الحادي والعشرين» كما جاء في عنوان الكتاب.ويحدد هدفه بالقول :»إنني أسعى إلى تحليل التطورات والأزمات التي قد تبرز في أفق العقود القادمة أكثر مما أبحث عن تقديم سيناريوهات مستقبلية أو رسم دروب المستقبل».
سخونة الأرض تفرز الظواهر المناخية «المتطرّفة»
استطاع الإنسان بفضل التقدم العلمي
والتكنولوجي سبر أعماق الأرض
واكتشاف مصادر الطاقة فيها وغزا الفضاء الخارجي. لكن كان لهذه الثورة العلمية والتقنية وجهها الآخر. فسكان العالم في
تزايد مستمر بحيث تشير التوقعات إلى أن
عددهم سوف يصل إلى حوالي 9 مليارات نسمة في أفق عام 2050. والأرض تزداد سخونتها ، الأمر الذي قد تكون نتائجه خطيرة جداً
في نهاية القرن الحالي إذا زادت السخونة عن
درجتين. ويقرّ الجميع اليوم ان المسؤول
عن هذه الزيادة هم البشر أنفسهم ونشاطاتهم
الصناعية وما ينجم عنها من غازات ضارّة لطبقات الجو.
هذه العوامل مجتمعة سيكون لها آثارها على حياة البشر. وسيكون في مقدّمة التحديات المستقبلية تأمين الغذاء. وهناك اليوم في الصين والهند وحدهما 800 مليون إنسان يعيشون في مستوى دون عتبة الفقر. ومن المطلوب أيضاً إيجاد بدائل لمصادر الطاقة التقليدية المحكوم عليها بالنضوب. هذا دون العديد من المعارك الأخرى وفي مقدمتها معركة الإنسان ضد الجراثيم.
بدت الأرض في الصور التي تمّ التقاطها لها من الجو جميلة وذات لون أزرق. ولكنها بدت أيضاً صغيرة جداً في الفضاء الشاسع الذي يحيط فيها. وما يتفق حوله الجميع اليوم هو أن أخطاراً كثيرة تحيق بهذا الكوكب وبالجنس البشري الذي يعيش عليه. وليس أقلّ هذه الأخطار وقوع حدث مناخي غير منتظر أو انتشار وباء قاتل للجميع أو ربما نشوب حرب نووية تشمل العالم كلّه. وهناك أيضاً تعاظم الطلب بالتوازي مع تزايد عدد البشر ومع تضاؤل العرض المحكوم بالثروات المحدودة المتوفرة.
مثل هذا المنطق يرى فيه المؤلف الكثير من التبسيط. هذا إلى جانب إهماله لدور التكنولوجيا التي كانت أصلاً وراء سبر أعماق الأرض والوصول إلى مصادر الطاقة ووراء اكتشاف الطاقة النووية. بهذا المعنى لا بدّ من أن تلعب التكنولوجيا دوراً أساسياً في المستقبل. ويشكّل العلم رافداً آخر.
ضمن مثل هذا السياق انبثق مفهوم التنمية المستدامة الذي استقبله باستحسان رجال السياسة والصحافة الذين تفرض عليهم مهنتهم في أغلب الأحيان التعامل مع الانفعالات أكثر من مناقشة المفاهيم. لكن قد يكون من المطلوب في المستقبل القريب تقديم إجابات على مسألة الزيادة السكانية للعالم وعلى التغيّر المناخي أو «التغيّر العام» حسب تعبير مستخدم أكثر فأكثر.
عدد البشر
لم يتزايد عدد البشر خلال قرون طويلة سوى ببطء كبير وبطريقة غير منتظمة. فوفيّات الأطفال المرتفعة لم تترك آنذاك إلاّ هامشاً صغيراً للزيادة. لكن بدأ أمل طول العمر بالظهور اعتباراً من القرن التاسع عشر بفضل إجراءات الرعاية الصحيّة والتقدم في مكافحة الأوبئة والأمراض. وكانت النتيجة هي أن عدد سكان العالم قد تضاعف 4 مرّات ما بين عام 1900 وعام 2000، أي من 5. 1 مليار إلى 6 مليارات. وكان بعض الخبراء في ميدان التزايد السكاني ـ الديموغرافي ـ قد أشاروا قبل 50 سنة إلى إمكانية أن يصل عدد سكان العالم إلى ما بين 15 و20 مليار نسمة في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. هذا رغم تناقص معدّل الولادات في أوروبا وأميركا الشمالية وروسيا واليابان.
لكنهم أخطأوا في تقديراتهم، الأمر الذي يرى فيه المؤلف البرهان على أنه من الصعب على الديمغرافيين تقديم تقديرات لفترة تتجاوز النصف قرن. ويعيد سبب الخطأ إلى التقليل من قيمة سياسات تحديد النسل في أغلبية بلدان العالم الثالث. وبالنتيجة عرف معدّل الزيادة السكانية العالمية بعض التباطؤ بحيث يجمع الخبراء اليوم على تقديم رقم 9 مليارات نسمة كعدد لسكان العالم في أفق عام 2050.
وبناءً على معطيات واقع اليوم يؤكّد المؤلف أن دراسة هذا القرن «ديمغرافيا» تتطلّب محاولة الإجابة على السؤالين التاليين: ما هي دلالة تناقص معدّل الزيادة السكانية العالمية أكثر فأكثر خلال العقود القادمة؟ ثمّ ما هي نتائج تباطؤ أكبر في هذا المعدّل بالنسبة للنصف الثاني من القرن الحالي، أي بالنسبة لسنوات 2050 ـ 2100؟
سوف يشهد النصف الأول من هذا القرن تزايداً كبيراً للسكان في منطقة جنوب الصحراء في إفريقيا وفي غرب آسيا وستكون الزيادة ملموسة أيضاً في الهند وأميركا اللاتينية. وسوف تتم المحافظة على المستوى الحالي في الصين وشمال أميركا (الولايات المتحدة وكندا) وأوروبا الغربية بينما قد تعرف منطقة وسط وشرق أوروبا وروسيا واليابان انكفاءً في عدد السكان.
وتشير التوقعات إلى أن زيادة عدد سكان المعمورة ستكون بحوالي 8. 1 مليار نسمة ما بين عام 2000 و2025 وحوالي 2. 1 مليار بين 2025 و2050. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط ستكون الزيادة السكانية كبيرة، حيث ان عدد سكان كل من مصر وتركيا وإيران سيقارب الـ 100 مليون نسمة. وسوف يزداد بالتوازي معدّل إطالة العمر في جميع مناطق العالم.
وبعد أن يقدّم المؤلف الكثير من التفاصيل عن مختلف مناطق العالم من وجهة النظر الديمغرافية يركّز على القول ان ظاهرة شيخوخة سكان العالم سوف تتعاظم خلال سنوات 2025 ـ 2050 وسوف تنتشر سياسات مراقبة النسل.
وتدلّ معطيات الواقع السكاني العالمي الراهن أنه بالإضافة إلى التوجهات الحالية لموجات الهجرة من أميركا الوسطى نحو الولايات المتحدة ومن بلدان محيط حوض المتوسط إلى أوروبا قد تشهد العقود القريبة القادمة عودة الكثير من أبناء البلدان الصاعدة الذين هاجروا سابقاً إلى بلدانهم. ويبقى من غير المعروف مصير الهجرات نحو روسيا باستثناء احتمال عودة الروس الذين كانوا قد أقاموا في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
لكن تبقى هناك تساؤلات حول الوضع السكاني العالمي في النصف الثاني من هذا القرن الحادي والعشرين، ذلك أن شيخوخة السكان وطول العمر قد يتعايشان عندها مع معدّلات ولادة مختلفة. ويمكن لعدد سكان العالم أن يصل إلى 10 مليارات نسمة في نهاية القرن أو ربما أنه، بعد بلوغ سقف للزيادة السكانية في أفق عام 2050، سيبدأ التقهقر وصولاً إلى 7 مليارات نسمة في عام 2100. إن الفارق بين الاحتمالين له قيمته الكبيرة فيما يتعلّق بحجم إصدار الغازات السامّة وبإيقاع التبدلات المناخية.
التبدّل المناخي
لم يمر يوم تقريباً خلال العقود المنصرمة دون الحديث عن التبدّل المناخي. ولا أحد يجهل اليوم أن سخونة الأرض ترتفع كنتيجة للنشاطات الصناعية المختلفة، كما يبدو. لكن دون اتخاذ أي إجراء حاسم.
لم تكن مسألة المناخ مطروحة على الأذهان حتى الأمس القريب. أمّا اليوم فهناك هوّة كبيرة بين ما يعتقده عامة الناس وبين المعارف التي كدّسها العلماء المختصّون الذين يقولون ان المناخ السائد حالياً عمره حوالي 10000 سنة.
ويصف العلم بدقّة مصير الـ 342 واط لكل متر مربّع تتلقاها الأرض من الإشعاع الشمسي. وكمحصّلة لعوامل عديدة تدل المعطيات أن سخونة الأرض قد ازدادت حوالي 5. 0 درجة خلال القرن العشرين، ويسود الاعتقاد أن إيقاع السخونة تسارع خلال نصف القرن الأخير.
ويرى كُثر أن زيادة سخونة الأرض هي وراء تكاثر الظواهر المناخية «المتطرّفة». لكن هذه النقطة لا تزال موضع جدل كبير بين العلماء على أساس أن فترة نصف قرن ليست كافية لاستخلاص نتائج نهائية؛ الأمر الذي لم يمنع خبراء المناخ من التحذير أن بعض الظواهر قد تعرف تبدّلاً سريعاً نسبياً مثل حركة التيارات في المحيطات.
الجميع يتفقون اليوم حول نقطة محددة هي أن المسؤول عن سخونة الأرض هو حجم غاز الفحم والغازات الضارّة الأخرى الصادرة عن الصناعة وما تنتجه من محركات وغيرها. ويبقى السؤال: إلى أين يمكن أن يصل مدى الظاهرة ومدى تأثيرها على الإنسانية خلال القرن الحادي والعشرين؟
هناك بحوث عديدة مكرّسة لمحاولة الإجابة على هذا الموضوع تحت إشراف منظمة اليونسكو. أمّا النتائج المحصّلة فيقول بعضها ان فترة سنوات 2000 إلى 2100 ستشهد ارتفاعاً في سخونة الأرض بحوالي 6. 0 درجة فقط إذا استمرّت الرقابة الصارمة على إصدار الغازات الضارّة حسب إيقاع عام 2000.
ويقول آخرون انه حتّى إذا تبنّى العالم سيناريوهات نمو اقتصادي تعتمد على التقدّم التكنولوجي وعلى التطوير التدريجي لمصادر طاقة لا يترتب عليها إصدار غاز الفحم وغيره من الغازات الضارّة فإن متوسّط ارتفاع معدّل الحرارة على مدى 100 سنة هو بين 8. 1 و4. 2 درجة.
هذا يعني أنه من الصعوبة بمكان أن تستطيع الإنسانية عدم تجاوز زيادة السخونة الأرضية بدرجتين على الأكثر خلال هذا القرن رغم إدراك أن هذه المخاطر تتعاظم كثيراً إذا تم تجاوز تلك العتبة. ومهما تعددت المؤتمرات والندوات حول سخونة الأرض يرى مؤلف هذا الكتاب أنه سيكون على البشرية أن تؤقلم جميع نشاطاتها مع منظور العمل على الحد من ارتفاع سخونة الأرض.
الطاقة والغذاء
سيزداد استهلاك الطاقة حتى أفق عام 2050 بفعل ارتفاع مستوى المعيشة في البلدان الصاعدة وزيادة عدد سكان الأرض. فكم سيزداد هذا الاستهلاك؟
تدل الإحصائيات أن استهلاك الطاقة قد ازداد في الولايات المتحدة وأوروبا بنسبة 1 بالمئة بالتوازي مع ازدياد إجمالي الإنتاج الداخلي بنفس النسبة 1 بالمئة على مدى القسم الأكبر من القرن العشرين. وتشير الوكالة الدولية للطاقة أن استهلاك الطاقة سيزداد بنسبة 5. 0 بالمئة خلال العقود الثلاثة الأولى من هذا القرن. لكن ندرة البترول قد تبدأ بشكل ملموس في أفق عام 2030 وفي أفق سنوات 2050 ـ 2080 بالنسبة للغاز. وبعدها؟
الحل ليس في الرجوع إلى عصر الكهوف، كما يقول البعض الذين يحنّون إلى حياة ما قبل الصناعة. ولكن يتم تحديد عدّة متطلبات لا بدّ منها لمواجهة الموقف وفي مقدمتها زيادة الفعالية في مجال الطاقة عبر اتخاذ إجراءات للحد من الحاجة إليها مثل تحسين عزل الأبنية وتغيير تقنيات الإضاءة...الخ، وتطوير الطاقة النووية، والتبنّي التدريجي للطاقات المتجددة الشمسية وغيرها.
وإذا تمّ إيجاد حلول لمسألة الطاقة يبقى السؤال: كيف يمكن تأمين الغذاء لجميع البشر في أفق عام 2050 مثلاً؟ ما تقوله الأرقام هو أنه يوجد في الصين والهند اليوم 800 مليون إنسان يعانون من سوء التغذية، حسب تقارير المنظمّة العالمية للتغذية. وتدلّ بعض الدراسات إلى أن الحاجات الغذائية سوف تزداد 5 مرّات في إفريقيا مقابل مرّتين في آسيا و3. 1 مرّة في أميركا الشمالية و9. 0 في أوروبا.
إن مواجهة مثل هذا الوضع مستقبلاً تتطلّب قبل كل شيء استقراراً سياسياً ونهاية للنزاعات في إفريقيا. ويمثّل تقدم العلوم والتقنيات أحد السبل الأساسية للسيطرة على مشكلة التغذية العالمية. ولابدّ أيضاً في هذا السياق محاولة إيجاد حلول لمشكلة ندرة مياه الشرب ومشكلة توزيعها.
وهناك معركة أخرى سيكون على الإنسان خوضها في القرن الحادي والعشرين ولا شك بعده، إنها معركته مع «الجراثيم» حيث يتفق الجميع على القول ان هذه «الميكروبات» باقية بقاء الإنسان ذاته. وفي المحصّلة يرى المؤلف أن الأزمة الأولى التي سيكون على البشر مواجهتها في القرن الحادي والعشرين هي الوصول إلى إدارة مطبّقة محليّاً ومنسّقة عالمياً لعلاقات الإنسانية مع المنظومة الأرضية وهو الأمر الذي قد تقوم به الأمم المتحدة من خلال الجهود التي يبذلها أمينها العام بان كي مون. «ويُخشى أن تأتي هذه الإدارة متأخرة وأنه سينبغي علينا انتظار بداية القرن القادم»، يقول المؤلف
هذه العوامل مجتمعة سيكون لها آثارها على حياة البشر. وسيكون في مقدّمة التحديات المستقبلية تأمين الغذاء. وهناك اليوم في الصين والهند وحدهما 800 مليون إنسان يعيشون في مستوى دون عتبة الفقر. ومن المطلوب أيضاً إيجاد بدائل لمصادر الطاقة التقليدية المحكوم عليها بالنضوب. هذا دون العديد من المعارك الأخرى وفي مقدمتها معركة الإنسان ضد الجراثيم.
بدت الأرض في الصور التي تمّ التقاطها لها من الجو جميلة وذات لون أزرق. ولكنها بدت أيضاً صغيرة جداً في الفضاء الشاسع الذي يحيط فيها. وما يتفق حوله الجميع اليوم هو أن أخطاراً كثيرة تحيق بهذا الكوكب وبالجنس البشري الذي يعيش عليه. وليس أقلّ هذه الأخطار وقوع حدث مناخي غير منتظر أو انتشار وباء قاتل للجميع أو ربما نشوب حرب نووية تشمل العالم كلّه. وهناك أيضاً تعاظم الطلب بالتوازي مع تزايد عدد البشر ومع تضاؤل العرض المحكوم بالثروات المحدودة المتوفرة.
مثل هذا المنطق يرى فيه المؤلف الكثير من التبسيط. هذا إلى جانب إهماله لدور التكنولوجيا التي كانت أصلاً وراء سبر أعماق الأرض والوصول إلى مصادر الطاقة ووراء اكتشاف الطاقة النووية. بهذا المعنى لا بدّ من أن تلعب التكنولوجيا دوراً أساسياً في المستقبل. ويشكّل العلم رافداً آخر.
ضمن مثل هذا السياق انبثق مفهوم التنمية المستدامة الذي استقبله باستحسان رجال السياسة والصحافة الذين تفرض عليهم مهنتهم في أغلب الأحيان التعامل مع الانفعالات أكثر من مناقشة المفاهيم. لكن قد يكون من المطلوب في المستقبل القريب تقديم إجابات على مسألة الزيادة السكانية للعالم وعلى التغيّر المناخي أو «التغيّر العام» حسب تعبير مستخدم أكثر فأكثر.
عدد البشر
لم يتزايد عدد البشر خلال قرون طويلة سوى ببطء كبير وبطريقة غير منتظمة. فوفيّات الأطفال المرتفعة لم تترك آنذاك إلاّ هامشاً صغيراً للزيادة. لكن بدأ أمل طول العمر بالظهور اعتباراً من القرن التاسع عشر بفضل إجراءات الرعاية الصحيّة والتقدم في مكافحة الأوبئة والأمراض. وكانت النتيجة هي أن عدد سكان العالم قد تضاعف 4 مرّات ما بين عام 1900 وعام 2000، أي من 5. 1 مليار إلى 6 مليارات. وكان بعض الخبراء في ميدان التزايد السكاني ـ الديموغرافي ـ قد أشاروا قبل 50 سنة إلى إمكانية أن يصل عدد سكان العالم إلى ما بين 15 و20 مليار نسمة في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. هذا رغم تناقص معدّل الولادات في أوروبا وأميركا الشمالية وروسيا واليابان.
لكنهم أخطأوا في تقديراتهم، الأمر الذي يرى فيه المؤلف البرهان على أنه من الصعب على الديمغرافيين تقديم تقديرات لفترة تتجاوز النصف قرن. ويعيد سبب الخطأ إلى التقليل من قيمة سياسات تحديد النسل في أغلبية بلدان العالم الثالث. وبالنتيجة عرف معدّل الزيادة السكانية العالمية بعض التباطؤ بحيث يجمع الخبراء اليوم على تقديم رقم 9 مليارات نسمة كعدد لسكان العالم في أفق عام 2050.
وبناءً على معطيات واقع اليوم يؤكّد المؤلف أن دراسة هذا القرن «ديمغرافيا» تتطلّب محاولة الإجابة على السؤالين التاليين: ما هي دلالة تناقص معدّل الزيادة السكانية العالمية أكثر فأكثر خلال العقود القادمة؟ ثمّ ما هي نتائج تباطؤ أكبر في هذا المعدّل بالنسبة للنصف الثاني من القرن الحالي، أي بالنسبة لسنوات 2050 ـ 2100؟
سوف يشهد النصف الأول من هذا القرن تزايداً كبيراً للسكان في منطقة جنوب الصحراء في إفريقيا وفي غرب آسيا وستكون الزيادة ملموسة أيضاً في الهند وأميركا اللاتينية. وسوف تتم المحافظة على المستوى الحالي في الصين وشمال أميركا (الولايات المتحدة وكندا) وأوروبا الغربية بينما قد تعرف منطقة وسط وشرق أوروبا وروسيا واليابان انكفاءً في عدد السكان.
وتشير التوقعات إلى أن زيادة عدد سكان المعمورة ستكون بحوالي 8. 1 مليار نسمة ما بين عام 2000 و2025 وحوالي 2. 1 مليار بين 2025 و2050. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط ستكون الزيادة السكانية كبيرة، حيث ان عدد سكان كل من مصر وتركيا وإيران سيقارب الـ 100 مليون نسمة. وسوف يزداد بالتوازي معدّل إطالة العمر في جميع مناطق العالم.
وبعد أن يقدّم المؤلف الكثير من التفاصيل عن مختلف مناطق العالم من وجهة النظر الديمغرافية يركّز على القول ان ظاهرة شيخوخة سكان العالم سوف تتعاظم خلال سنوات 2025 ـ 2050 وسوف تنتشر سياسات مراقبة النسل.
وتدلّ معطيات الواقع السكاني العالمي الراهن أنه بالإضافة إلى التوجهات الحالية لموجات الهجرة من أميركا الوسطى نحو الولايات المتحدة ومن بلدان محيط حوض المتوسط إلى أوروبا قد تشهد العقود القريبة القادمة عودة الكثير من أبناء البلدان الصاعدة الذين هاجروا سابقاً إلى بلدانهم. ويبقى من غير المعروف مصير الهجرات نحو روسيا باستثناء احتمال عودة الروس الذين كانوا قد أقاموا في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
لكن تبقى هناك تساؤلات حول الوضع السكاني العالمي في النصف الثاني من هذا القرن الحادي والعشرين، ذلك أن شيخوخة السكان وطول العمر قد يتعايشان عندها مع معدّلات ولادة مختلفة. ويمكن لعدد سكان العالم أن يصل إلى 10 مليارات نسمة في نهاية القرن أو ربما أنه، بعد بلوغ سقف للزيادة السكانية في أفق عام 2050، سيبدأ التقهقر وصولاً إلى 7 مليارات نسمة في عام 2100. إن الفارق بين الاحتمالين له قيمته الكبيرة فيما يتعلّق بحجم إصدار الغازات السامّة وبإيقاع التبدلات المناخية.
التبدّل المناخي
لم يمر يوم تقريباً خلال العقود المنصرمة دون الحديث عن التبدّل المناخي. ولا أحد يجهل اليوم أن سخونة الأرض ترتفع كنتيجة للنشاطات الصناعية المختلفة، كما يبدو. لكن دون اتخاذ أي إجراء حاسم.
لم تكن مسألة المناخ مطروحة على الأذهان حتى الأمس القريب. أمّا اليوم فهناك هوّة كبيرة بين ما يعتقده عامة الناس وبين المعارف التي كدّسها العلماء المختصّون الذين يقولون ان المناخ السائد حالياً عمره حوالي 10000 سنة.
ويصف العلم بدقّة مصير الـ 342 واط لكل متر مربّع تتلقاها الأرض من الإشعاع الشمسي. وكمحصّلة لعوامل عديدة تدل المعطيات أن سخونة الأرض قد ازدادت حوالي 5. 0 درجة خلال القرن العشرين، ويسود الاعتقاد أن إيقاع السخونة تسارع خلال نصف القرن الأخير.
ويرى كُثر أن زيادة سخونة الأرض هي وراء تكاثر الظواهر المناخية «المتطرّفة». لكن هذه النقطة لا تزال موضع جدل كبير بين العلماء على أساس أن فترة نصف قرن ليست كافية لاستخلاص نتائج نهائية؛ الأمر الذي لم يمنع خبراء المناخ من التحذير أن بعض الظواهر قد تعرف تبدّلاً سريعاً نسبياً مثل حركة التيارات في المحيطات.
الجميع يتفقون اليوم حول نقطة محددة هي أن المسؤول عن سخونة الأرض هو حجم غاز الفحم والغازات الضارّة الأخرى الصادرة عن الصناعة وما تنتجه من محركات وغيرها. ويبقى السؤال: إلى أين يمكن أن يصل مدى الظاهرة ومدى تأثيرها على الإنسانية خلال القرن الحادي والعشرين؟
هناك بحوث عديدة مكرّسة لمحاولة الإجابة على هذا الموضوع تحت إشراف منظمة اليونسكو. أمّا النتائج المحصّلة فيقول بعضها ان فترة سنوات 2000 إلى 2100 ستشهد ارتفاعاً في سخونة الأرض بحوالي 6. 0 درجة فقط إذا استمرّت الرقابة الصارمة على إصدار الغازات الضارّة حسب إيقاع عام 2000.
ويقول آخرون انه حتّى إذا تبنّى العالم سيناريوهات نمو اقتصادي تعتمد على التقدّم التكنولوجي وعلى التطوير التدريجي لمصادر طاقة لا يترتب عليها إصدار غاز الفحم وغيره من الغازات الضارّة فإن متوسّط ارتفاع معدّل الحرارة على مدى 100 سنة هو بين 8. 1 و4. 2 درجة.
هذا يعني أنه من الصعوبة بمكان أن تستطيع الإنسانية عدم تجاوز زيادة السخونة الأرضية بدرجتين على الأكثر خلال هذا القرن رغم إدراك أن هذه المخاطر تتعاظم كثيراً إذا تم تجاوز تلك العتبة. ومهما تعددت المؤتمرات والندوات حول سخونة الأرض يرى مؤلف هذا الكتاب أنه سيكون على البشرية أن تؤقلم جميع نشاطاتها مع منظور العمل على الحد من ارتفاع سخونة الأرض.
الطاقة والغذاء
سيزداد استهلاك الطاقة حتى أفق عام 2050 بفعل ارتفاع مستوى المعيشة في البلدان الصاعدة وزيادة عدد سكان الأرض. فكم سيزداد هذا الاستهلاك؟
تدل الإحصائيات أن استهلاك الطاقة قد ازداد في الولايات المتحدة وأوروبا بنسبة 1 بالمئة بالتوازي مع ازدياد إجمالي الإنتاج الداخلي بنفس النسبة 1 بالمئة على مدى القسم الأكبر من القرن العشرين. وتشير الوكالة الدولية للطاقة أن استهلاك الطاقة سيزداد بنسبة 5. 0 بالمئة خلال العقود الثلاثة الأولى من هذا القرن. لكن ندرة البترول قد تبدأ بشكل ملموس في أفق عام 2030 وفي أفق سنوات 2050 ـ 2080 بالنسبة للغاز. وبعدها؟
الحل ليس في الرجوع إلى عصر الكهوف، كما يقول البعض الذين يحنّون إلى حياة ما قبل الصناعة. ولكن يتم تحديد عدّة متطلبات لا بدّ منها لمواجهة الموقف وفي مقدمتها زيادة الفعالية في مجال الطاقة عبر اتخاذ إجراءات للحد من الحاجة إليها مثل تحسين عزل الأبنية وتغيير تقنيات الإضاءة...الخ، وتطوير الطاقة النووية، والتبنّي التدريجي للطاقات المتجددة الشمسية وغيرها.
وإذا تمّ إيجاد حلول لمسألة الطاقة يبقى السؤال: كيف يمكن تأمين الغذاء لجميع البشر في أفق عام 2050 مثلاً؟ ما تقوله الأرقام هو أنه يوجد في الصين والهند اليوم 800 مليون إنسان يعانون من سوء التغذية، حسب تقارير المنظمّة العالمية للتغذية. وتدلّ بعض الدراسات إلى أن الحاجات الغذائية سوف تزداد 5 مرّات في إفريقيا مقابل مرّتين في آسيا و3. 1 مرّة في أميركا الشمالية و9. 0 في أوروبا.
إن مواجهة مثل هذا الوضع مستقبلاً تتطلّب قبل كل شيء استقراراً سياسياً ونهاية للنزاعات في إفريقيا. ويمثّل تقدم العلوم والتقنيات أحد السبل الأساسية للسيطرة على مشكلة التغذية العالمية. ولابدّ أيضاً في هذا السياق محاولة إيجاد حلول لمشكلة ندرة مياه الشرب ومشكلة توزيعها.
وهناك معركة أخرى سيكون على الإنسان خوضها في القرن الحادي والعشرين ولا شك بعده، إنها معركته مع «الجراثيم» حيث يتفق الجميع على القول ان هذه «الميكروبات» باقية بقاء الإنسان ذاته. وفي المحصّلة يرى المؤلف أن الأزمة الأولى التي سيكون على البشر مواجهتها في القرن الحادي والعشرين هي الوصول إلى إدارة مطبّقة محليّاً ومنسّقة عالمياً لعلاقات الإنسانية مع المنظومة الأرضية وهو الأمر الذي قد تقوم به الأمم المتحدة من خلال الجهود التي يبذلها أمينها العام بان كي مون. «ويُخشى أن تأتي هذه الإدارة متأخرة وأنه سينبغي علينا انتظار بداية القرن القادم»، يقول المؤلف
القرن الجديد يشهد عودة مجاميع إقليمية
ينتمي البشر إلى مجموعات متعددة
ابتداءً من الأسرة ووصولاً إلى
الدولة ومروراً بمختلف أشكال التنظيم والجمعيات والعقائد. والبحث عن المسائل الرئيسية التي سوف يواجهونها خلال هذا القرن
الحادي والعشرين تشكل موضوعاً
معقّداً للتأمل والتفكير.
وضمن هذه الرؤية المستقبلية يتم البحث في مسار التطوّر الذي قد تعرفه منظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية وكذلك المنظمات الإقليمية والصيغ الاتحادية مثل الاتحاد الأوروبي. وهناك أسئلة كثيرة حول الطريقة التي ستتم على أساسها إدارة الأزمات التي سيواجهها العالم خلال العقود القادمة.
كما أن الديمقراطية التي تشكّل ركيزة الإيديولوجية السائدة ستشهد تغيراً كبيراً في آليات عملها خاصة بسبب المد الكبير لوسائل الإعلام والاتصال. ويبقى مستقبلها مرهوناً بمستوى التنمية الاقتصادية وبعلاقات الفرد مع محيطه ومع السلطة القائمة وأخيراً وأساساً بتقنيات الإعلام التي جعلت التغيّر داخل المجتمعات وعلى صعيد العلاقات الدولية هو إحدى السمات البارزة للقرن الحالي.
ينتمي البشر إلى مجموعات متعددة ابتداءً من الأسرة ووصولاً إلى الحضارة بالمعنى الأوسع ومروراً بالدولة والمجتمع ومختلف أشكال التنظيم والعقائد. ومؤلف هذا الكتاب يحاول البحث في المسائل الرئيسية التي قد تواجهها هذه المجموعات خلال القرن الحادي والعشرين.
ويرى المؤلف أن عدد الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة قد يزيد في أفق عام 2100 ما بين 20 إلى 40 دولة جديدة. وهذه التجزئة في التنظيم السياسي للبشرية تتم إعادتها إلى سببين رئيسيين. الأول هو أن المشاعر القومية التي برزت في أوروبا خلال القرن الثامن عشر ستكمل انتشارها وستدفع مجتمعات جديدة إلى البحث عن استقلالها السياسي بينما لن تسهّل العولمة «اجتياح» البلدان الصغيرة من قبل الدور الأكبر، وهذا هو السبب الثاني.
مصادر الخطر السياسي
لكن إذا كانت مصادر الخطر السياسي على الدول الصغيرة أقل فإن مسيرة العقود المقبلة سوف تفرض تعميق التعاون على الأصعدة الإقليمية من أجل تسوية مشكلات على المستوى الإقليمي أو من أجل تسوية مشكلات على المستوى الإقليمي أو من أجل الدفاع عن مصالح اقتصادية أو بيئية مشتركة على المسرح العالمي. هكذا قد يشهد هذا القرن إحياء عدة مجاميع إقليمية كان قد انفرط عقدها كقيام فيدرالية سلافية مثلاً تضم روسيا وأوكرانيا وبيلوروسيا. أما القناعة الرئيسية التي يؤكدها المؤلف فهي أن الدول ستواجه العديد من المشكلات خلال القرن الحادي والعشرين بسبب ما ستلقيه العولمة على سيادتها الوطنية داخل حدودها من ظلال.
لكن العولمة لن تشوّش عمل الدول فقط ولكنها سوف تثير الاضطراب في حياة المجتمعات وبالتالي الأفراد. فهذه المجتمعات ستجد نفسها مأخوذة بين الانكفاء الثقافي والاستقلال الذاتي على الصعيد السياسي.
هكذا يمكن للأميركيين والأوروبيين والروس والهنود والصينيين واليابانيين والعرب أن يتقاسموا ثمرات الاكتشافات العلمية والتقدم التكنولوجي مع احتفاظهم فترة طويلة برؤاهم المختلفة للعالم. وهكذا أيضاً لم يفهم جورج دبليو بوش وإدارته واقع أن الكثير من العراقيين فرحوا للإطاحة بنظام صدام حسين لكنهم شعروا بالذل عندما دخل الجنود الأميركيون إلى منازلهم، ولم يفهموا أن «الأمل الديمقراطي» لا يتفق مع وجود جنود احتلال أجانب.
مستقبل المنظمات الدولية
تعددت على مدى الخمسين سنة الأخيرة المنظمات والهيئات التي تضم مجموعة من الدول كأعضاء فيها. هذا إلى جانب منظومة كبيرة من النوادي «للرسميين» ومراكز الدراسات وغيرها. ويحدد المؤلف أربع مجموعات كبرى مع محاولة استقراء مساراتها المحتملة خلال القرن الحادي والعشرين. هذه المجموعات الأربع هي منظمة الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الخاصة مثل منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة الدولية، والتجمعات القائمة على أساس إقليمي اقتصادي أو عسكري، وأخيراً المنظمات التي تضم عدة دول يمكن أن تؤدي إلى قيام صيغ اتحادية، مثل الاتحاد الأوروبي.
تشترك جميع المنظمات التي تضم عدة حكومات في أن لها مجلس عام أو جمعية عامة تمتلك كل دولة ممثلة فيها بصوت واحد. إن ميثاق الأمم المتحدة وحده هو الذي يضيف لهذا النموذج ؟ الموديل ؟ إنشاء «مجلس أمن» يمتلك سلطة اتخاذ قرارات بالأغلبية، إلا إذا اقترعت الجمعية العامة ضد هذه القرارات بأغلبية الثلثين.
إن الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن يمتلك كل منهم حق النقض - الفيتو. وهذه الدول الخمس «المنتصرة في الحرب العالمية الثانية» لم تسمح حتى الآن بدخول أية دولة كبرى أخرى إلى مجلس الأمن، فكل محاولات «الإصلاح» باءت بالفشل.
لكن رغم هذه الصرامة في سلوكية الأمم المتحدة ورغم الاستقرار «الظاهري» الذي تتمتع فيه منذ أكثر من 60 سنة، قامت عدة مجموعات مؤلّفة من دول تبحث فيما بينها أمور العالم، مثل مجموعة الدول الثماني المصنعة الكبرى المؤلفة من الولايات المتحدة واليابان وروسيا وكندا وألمانيا وانجلترا وفرنسا وإيطاليا والتي يجتمع رؤساؤها مرة كل سنة، ومجموعة الدول العشرين التي تأسست عام 2008 لمكافحة الانحسار الاقتصادي العالمي.
والسؤال المطروح اليوم هو: هل سينتظم عمل «الهيئة الحكومية» المستقبلية حول نظام متجدد للأمم المتحدة أم أن إعادة توزيع السلطات ستتم على أساس القوى الحقيقية للدول، أو لمجموعة الدول، أو ربما سوف يكون التطور خارج نظام الأمم المتحدة كله؟ مهما تكن الإجابة على هذا السؤال يرى المؤلف أن هناك أزمة فيما يخص «الهيئة الدولية» التي سيكون عليها تسيير أمور العالم، وخاصة إدارة أزماته المستجدة. المؤكد هو أن الأمور لن تستمر على ما هي عليه اليوم.
وتمثل منظمة التجارة العالمية الصيغة الأكثر تعبيراً عن المنظمات العالمية المختصّة بقطاع معيّن. أعضاء هذه المنظمة هي الدول وليس كلها. وكانت الولايات المتحدة قد لعبت دوراً مفيداً بعد الحرب العالمية الثانية عبر إرغامها الدول، خاصة الأوروبية، على عدم الانغلاق على نفسها وقبول تطوير المبادلات التجارية الدولية. لكن مع عودة روسيا والدخول القوي للبلدان الصاعدة، والانحطاط النسبي للولايات المتحدة وللاتحاد الأوروبي، سوف يتم تغيّر كبير على المسرح التجاري الدولي. وتتمثل الورقة الأقوى بالنسبة لأوروبا أنها ممثلة في منظمة التجارة العالمية بالمفوضية الأوروبية وبمفاوض واحد.
مستقبل التعاون الإقليمي
ومن المحتمل أن يشهد عدد المنظمات الدولية المختصة ازدياداً كبيراً مما سيُدخلها في صراعات على ميادين اختصاصها. لكن ستكون القضية الأهم مستقبلاً هي العلاقة بين ما هو متعدد الأطراف والعلاقات الثنائية. لكن العولمة عامل تشجيع لازدهار العلاقات متعددة الأطراف، على أساس اقتصادي. أما العلاقات الثنائية فتخلط السياسة غالباً مع الاقتصاد. وعلى المبدأ الاقتصادي تقوم المنظمات ذات الطابع الإقليمي.
يبقى الاتحاد الأوروبي هو الصيغة الأكثر طموحاً اليوم للوصول إلى وحدة فيدرالية كاملة. إنه يضم 5,7 بالمئة من مجموع سكان العالم. وهو يمثل أيضاً صيغة فريدة تجمع لغات وقوميات وأمم متنوعة، لكن يجمع بينها المشاعر بالانتماء إلى حضارة مشتركة. لكن لا بد من القول انه لا يمتلك حتى الآن السلطات التي تسمح له أن يكون له وزنه الكبير على الحلول الخاصة بالمشكلات الدولية والدفاع مستقبلاً عن الرؤية الأوروبية بمواجهة هيمنة الولايات المتحدة الأميركية أو بمواجهة الدور القادم لكل من الصين والهند.
بالنسبة للعلاقات الأوروبية مع الحلف الأطلسي إنها مرهونة اليوم بموازين القوى القائمة والتي تمثّل استمراراً للفترة التي قام فيها أصلاً الحلف كمنظمة عسكرية لحماية أوروبا من التهديد السوفييتي في ظل الحرب الباردة. ما يراه المؤلف هو أن الهيمنة الأميركية لن تخفّ مستقبلاً إلا بمقدار ما يتضاءل وزن الولايات المتحدة على المسرح الدولي ويتعزز التلاحم الأوروبي. وذات يوم سوف يكون فيه وجود حلف أطلسي «برأسين» تعبيراً أفضل عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي لهذا الجزء من العالم.
والديمقراطية
تمثل الديمقراطية ركيزة الإيديولوجية الغربية السائدة، ويتم التعبير عنها غالباً بجملة «حكم الشعب بواسطة الشعب». ولا يتردد المؤلف بوصف هذه الجملة أنها في «غاية السطحية». ذلك على أساس أن الديمقراطية هي «تكنولوجيا اجتماعية جرى إعدادها على المدى الطويل». وهي تعبر عن آلية معقدة لتنظيم العلاقات بين السلطات المختلفة، وعمل الأحزاب ووسائل الإعلام والمجموعات المنظمة، الخ. ثم إن الجمع بين هذه العناصر كلها يجعلها، كأية آلية أخرى، معرّضة للتخريب أو لانحطاط مستوى أدائها.
والديمقراطية هي التي أوصلت أدولف هتلر إلى الحكم في ألمانيا. وبعد أن يسوق المؤلف سلسلة من الأمثلة يصل إلى القول انه لا يمكن «تسليم الديمقراطية جاهزة بالمفتاح مثل أي مصنع» إلى أي شعب. وكذلك لا يمكن فرضها من الخارج بالاعتماد على فضائلها، ثم إن الديمقراطية لم تكن تعني في بداياتها سوى مجموعات قليلة من السكان في بلدانها قبل أن تكسب دوائر أوسع فأوسع.
ثم إن الديمقراطية بحاجة إلى زمن طويل كي تعزز مواقعها. والأكثر صعوبة هو قبول الحد من السلطة وتحديد قواعد الانتقال. هكذا إذا كانت دول شمال أوروبا قد وصلت مبكّرة إلى ذلك وأن الولايات المتحدة والهند ما بعد الاستعمار قد دخلت المنظومة الديمقراطية بوقت غير طويل فإنه كان على انجلترا أن تنتظر عدة قرون وتشهد ثورتين بينما لم تصل فرنسا إلى الديمقراطية سوى غداة القرن العشرين والكثير من الدول الأوروبية الأخرى عرفتها بعد الحرب العالمية الثانية.
تعاظم النزعات الفردية
وبعد أن يشير المؤلف إلى أن الديمقراطية قد تكون مهددة اليوم في أوروبا بسبب تعاظم النزعات الفردية والهجوم الإعلامي الكاسح، يرى أن مستقبل الديمقراطية في العالم مرهون بثلاثة عوامل هي مستوى التنمية الاقتصادية وعلاقات الفرد بالأسرة وبالسلطة وأخيراً تكنولوجيات الإعلام والاتصال.
وحول هذه النقطة المتعلقة بالإعلام يؤكد المؤلف أن العالم يعيش حاليا حالة من القطيعة تعود إلى تكنولوجيات الاتصال والإعلام الجديدة. وأصبح بمقدور أي رئيس أن يقوم كل يوم بعملية استفتاء شعبي حول القرارات التي سيتخذها في الغد. مجرد هذه الفكرة تبيّن أن «الانفجار» الإعلامي هو بصدد تغيير «التكنولوجيا الاجتماعية» المتمثلة في الديمقراطية. وأبعد منها بكثير هو بصدد إحداث تغيير عميق في العلاقات داخل المجتمعات الإنسانية. وهذا التغيير إحدى السمات الكبرى للقرن الحادي والعشرين. ذلك على صعيد الديمقراطيات في الداخل وعلى صعيد العلاقات الدولية في عصر العولمة.
وضمن هذه الرؤية المستقبلية يتم البحث في مسار التطوّر الذي قد تعرفه منظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية وكذلك المنظمات الإقليمية والصيغ الاتحادية مثل الاتحاد الأوروبي. وهناك أسئلة كثيرة حول الطريقة التي ستتم على أساسها إدارة الأزمات التي سيواجهها العالم خلال العقود القادمة.
كما أن الديمقراطية التي تشكّل ركيزة الإيديولوجية السائدة ستشهد تغيراً كبيراً في آليات عملها خاصة بسبب المد الكبير لوسائل الإعلام والاتصال. ويبقى مستقبلها مرهوناً بمستوى التنمية الاقتصادية وبعلاقات الفرد مع محيطه ومع السلطة القائمة وأخيراً وأساساً بتقنيات الإعلام التي جعلت التغيّر داخل المجتمعات وعلى صعيد العلاقات الدولية هو إحدى السمات البارزة للقرن الحالي.
ينتمي البشر إلى مجموعات متعددة ابتداءً من الأسرة ووصولاً إلى الحضارة بالمعنى الأوسع ومروراً بالدولة والمجتمع ومختلف أشكال التنظيم والعقائد. ومؤلف هذا الكتاب يحاول البحث في المسائل الرئيسية التي قد تواجهها هذه المجموعات خلال القرن الحادي والعشرين.
ويرى المؤلف أن عدد الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة قد يزيد في أفق عام 2100 ما بين 20 إلى 40 دولة جديدة. وهذه التجزئة في التنظيم السياسي للبشرية تتم إعادتها إلى سببين رئيسيين. الأول هو أن المشاعر القومية التي برزت في أوروبا خلال القرن الثامن عشر ستكمل انتشارها وستدفع مجتمعات جديدة إلى البحث عن استقلالها السياسي بينما لن تسهّل العولمة «اجتياح» البلدان الصغيرة من قبل الدور الأكبر، وهذا هو السبب الثاني.
مصادر الخطر السياسي
لكن إذا كانت مصادر الخطر السياسي على الدول الصغيرة أقل فإن مسيرة العقود المقبلة سوف تفرض تعميق التعاون على الأصعدة الإقليمية من أجل تسوية مشكلات على المستوى الإقليمي أو من أجل تسوية مشكلات على المستوى الإقليمي أو من أجل الدفاع عن مصالح اقتصادية أو بيئية مشتركة على المسرح العالمي. هكذا قد يشهد هذا القرن إحياء عدة مجاميع إقليمية كان قد انفرط عقدها كقيام فيدرالية سلافية مثلاً تضم روسيا وأوكرانيا وبيلوروسيا. أما القناعة الرئيسية التي يؤكدها المؤلف فهي أن الدول ستواجه العديد من المشكلات خلال القرن الحادي والعشرين بسبب ما ستلقيه العولمة على سيادتها الوطنية داخل حدودها من ظلال.
لكن العولمة لن تشوّش عمل الدول فقط ولكنها سوف تثير الاضطراب في حياة المجتمعات وبالتالي الأفراد. فهذه المجتمعات ستجد نفسها مأخوذة بين الانكفاء الثقافي والاستقلال الذاتي على الصعيد السياسي.
هكذا يمكن للأميركيين والأوروبيين والروس والهنود والصينيين واليابانيين والعرب أن يتقاسموا ثمرات الاكتشافات العلمية والتقدم التكنولوجي مع احتفاظهم فترة طويلة برؤاهم المختلفة للعالم. وهكذا أيضاً لم يفهم جورج دبليو بوش وإدارته واقع أن الكثير من العراقيين فرحوا للإطاحة بنظام صدام حسين لكنهم شعروا بالذل عندما دخل الجنود الأميركيون إلى منازلهم، ولم يفهموا أن «الأمل الديمقراطي» لا يتفق مع وجود جنود احتلال أجانب.
مستقبل المنظمات الدولية
تعددت على مدى الخمسين سنة الأخيرة المنظمات والهيئات التي تضم مجموعة من الدول كأعضاء فيها. هذا إلى جانب منظومة كبيرة من النوادي «للرسميين» ومراكز الدراسات وغيرها. ويحدد المؤلف أربع مجموعات كبرى مع محاولة استقراء مساراتها المحتملة خلال القرن الحادي والعشرين. هذه المجموعات الأربع هي منظمة الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الخاصة مثل منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة الدولية، والتجمعات القائمة على أساس إقليمي اقتصادي أو عسكري، وأخيراً المنظمات التي تضم عدة دول يمكن أن تؤدي إلى قيام صيغ اتحادية، مثل الاتحاد الأوروبي.
تشترك جميع المنظمات التي تضم عدة حكومات في أن لها مجلس عام أو جمعية عامة تمتلك كل دولة ممثلة فيها بصوت واحد. إن ميثاق الأمم المتحدة وحده هو الذي يضيف لهذا النموذج ؟ الموديل ؟ إنشاء «مجلس أمن» يمتلك سلطة اتخاذ قرارات بالأغلبية، إلا إذا اقترعت الجمعية العامة ضد هذه القرارات بأغلبية الثلثين.
إن الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن يمتلك كل منهم حق النقض - الفيتو. وهذه الدول الخمس «المنتصرة في الحرب العالمية الثانية» لم تسمح حتى الآن بدخول أية دولة كبرى أخرى إلى مجلس الأمن، فكل محاولات «الإصلاح» باءت بالفشل.
لكن رغم هذه الصرامة في سلوكية الأمم المتحدة ورغم الاستقرار «الظاهري» الذي تتمتع فيه منذ أكثر من 60 سنة، قامت عدة مجموعات مؤلّفة من دول تبحث فيما بينها أمور العالم، مثل مجموعة الدول الثماني المصنعة الكبرى المؤلفة من الولايات المتحدة واليابان وروسيا وكندا وألمانيا وانجلترا وفرنسا وإيطاليا والتي يجتمع رؤساؤها مرة كل سنة، ومجموعة الدول العشرين التي تأسست عام 2008 لمكافحة الانحسار الاقتصادي العالمي.
والسؤال المطروح اليوم هو: هل سينتظم عمل «الهيئة الحكومية» المستقبلية حول نظام متجدد للأمم المتحدة أم أن إعادة توزيع السلطات ستتم على أساس القوى الحقيقية للدول، أو لمجموعة الدول، أو ربما سوف يكون التطور خارج نظام الأمم المتحدة كله؟ مهما تكن الإجابة على هذا السؤال يرى المؤلف أن هناك أزمة فيما يخص «الهيئة الدولية» التي سيكون عليها تسيير أمور العالم، وخاصة إدارة أزماته المستجدة. المؤكد هو أن الأمور لن تستمر على ما هي عليه اليوم.
وتمثل منظمة التجارة العالمية الصيغة الأكثر تعبيراً عن المنظمات العالمية المختصّة بقطاع معيّن. أعضاء هذه المنظمة هي الدول وليس كلها. وكانت الولايات المتحدة قد لعبت دوراً مفيداً بعد الحرب العالمية الثانية عبر إرغامها الدول، خاصة الأوروبية، على عدم الانغلاق على نفسها وقبول تطوير المبادلات التجارية الدولية. لكن مع عودة روسيا والدخول القوي للبلدان الصاعدة، والانحطاط النسبي للولايات المتحدة وللاتحاد الأوروبي، سوف يتم تغيّر كبير على المسرح التجاري الدولي. وتتمثل الورقة الأقوى بالنسبة لأوروبا أنها ممثلة في منظمة التجارة العالمية بالمفوضية الأوروبية وبمفاوض واحد.
مستقبل التعاون الإقليمي
ومن المحتمل أن يشهد عدد المنظمات الدولية المختصة ازدياداً كبيراً مما سيُدخلها في صراعات على ميادين اختصاصها. لكن ستكون القضية الأهم مستقبلاً هي العلاقة بين ما هو متعدد الأطراف والعلاقات الثنائية. لكن العولمة عامل تشجيع لازدهار العلاقات متعددة الأطراف، على أساس اقتصادي. أما العلاقات الثنائية فتخلط السياسة غالباً مع الاقتصاد. وعلى المبدأ الاقتصادي تقوم المنظمات ذات الطابع الإقليمي.
يبقى الاتحاد الأوروبي هو الصيغة الأكثر طموحاً اليوم للوصول إلى وحدة فيدرالية كاملة. إنه يضم 5,7 بالمئة من مجموع سكان العالم. وهو يمثل أيضاً صيغة فريدة تجمع لغات وقوميات وأمم متنوعة، لكن يجمع بينها المشاعر بالانتماء إلى حضارة مشتركة. لكن لا بد من القول انه لا يمتلك حتى الآن السلطات التي تسمح له أن يكون له وزنه الكبير على الحلول الخاصة بالمشكلات الدولية والدفاع مستقبلاً عن الرؤية الأوروبية بمواجهة هيمنة الولايات المتحدة الأميركية أو بمواجهة الدور القادم لكل من الصين والهند.
بالنسبة للعلاقات الأوروبية مع الحلف الأطلسي إنها مرهونة اليوم بموازين القوى القائمة والتي تمثّل استمراراً للفترة التي قام فيها أصلاً الحلف كمنظمة عسكرية لحماية أوروبا من التهديد السوفييتي في ظل الحرب الباردة. ما يراه المؤلف هو أن الهيمنة الأميركية لن تخفّ مستقبلاً إلا بمقدار ما يتضاءل وزن الولايات المتحدة على المسرح الدولي ويتعزز التلاحم الأوروبي. وذات يوم سوف يكون فيه وجود حلف أطلسي «برأسين» تعبيراً أفضل عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي لهذا الجزء من العالم.
والديمقراطية
تمثل الديمقراطية ركيزة الإيديولوجية الغربية السائدة، ويتم التعبير عنها غالباً بجملة «حكم الشعب بواسطة الشعب». ولا يتردد المؤلف بوصف هذه الجملة أنها في «غاية السطحية». ذلك على أساس أن الديمقراطية هي «تكنولوجيا اجتماعية جرى إعدادها على المدى الطويل». وهي تعبر عن آلية معقدة لتنظيم العلاقات بين السلطات المختلفة، وعمل الأحزاب ووسائل الإعلام والمجموعات المنظمة، الخ. ثم إن الجمع بين هذه العناصر كلها يجعلها، كأية آلية أخرى، معرّضة للتخريب أو لانحطاط مستوى أدائها.
والديمقراطية هي التي أوصلت أدولف هتلر إلى الحكم في ألمانيا. وبعد أن يسوق المؤلف سلسلة من الأمثلة يصل إلى القول انه لا يمكن «تسليم الديمقراطية جاهزة بالمفتاح مثل أي مصنع» إلى أي شعب. وكذلك لا يمكن فرضها من الخارج بالاعتماد على فضائلها، ثم إن الديمقراطية لم تكن تعني في بداياتها سوى مجموعات قليلة من السكان في بلدانها قبل أن تكسب دوائر أوسع فأوسع.
ثم إن الديمقراطية بحاجة إلى زمن طويل كي تعزز مواقعها. والأكثر صعوبة هو قبول الحد من السلطة وتحديد قواعد الانتقال. هكذا إذا كانت دول شمال أوروبا قد وصلت مبكّرة إلى ذلك وأن الولايات المتحدة والهند ما بعد الاستعمار قد دخلت المنظومة الديمقراطية بوقت غير طويل فإنه كان على انجلترا أن تنتظر عدة قرون وتشهد ثورتين بينما لم تصل فرنسا إلى الديمقراطية سوى غداة القرن العشرين والكثير من الدول الأوروبية الأخرى عرفتها بعد الحرب العالمية الثانية.
تعاظم النزعات الفردية
وبعد أن يشير المؤلف إلى أن الديمقراطية قد تكون مهددة اليوم في أوروبا بسبب تعاظم النزعات الفردية والهجوم الإعلامي الكاسح، يرى أن مستقبل الديمقراطية في العالم مرهون بثلاثة عوامل هي مستوى التنمية الاقتصادية وعلاقات الفرد بالأسرة وبالسلطة وأخيراً تكنولوجيات الإعلام والاتصال.
وحول هذه النقطة المتعلقة بالإعلام يؤكد المؤلف أن العالم يعيش حاليا حالة من القطيعة تعود إلى تكنولوجيات الاتصال والإعلام الجديدة. وأصبح بمقدور أي رئيس أن يقوم كل يوم بعملية استفتاء شعبي حول القرارات التي سيتخذها في الغد. مجرد هذه الفكرة تبيّن أن «الانفجار» الإعلامي هو بصدد تغيير «التكنولوجيا الاجتماعية» المتمثلة في الديمقراطية. وأبعد منها بكثير هو بصدد إحداث تغيير عميق في العلاقات داخل المجتمعات الإنسانية. وهذا التغيير إحدى السمات الكبرى للقرن الحادي والعشرين. ذلك على صعيد الديمقراطيات في الداخل وعلى صعيد العلاقات الدولية في عصر العولمة.
الشرق الأوسط بؤرة النزاعات بامتياز
إذا كان من الصعب الحديث عن تطورات
محتملة على مدى مائة عام قادمة
في العالم كله، فإن مؤلف هذا الكتاب اختار التركيز على عدة مناطق يرى أنها ستكون ذات أهمية مفصلية في تحديد توجهات العالم
الجديدة. وهكذا يتعرض لكل من الصين والهند
واليابان والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا وبقية العالم خاصة جنوب أميركا والقوس الممتد من مراكش إلى كابول.
ويؤكد المؤلف أن «الصين بعد الاستيقاظ» سوف تواجه عددا من أشكال الخلل الداخلي التي سيكون على السلطة الصينية مواجهتها. ذلك كله نتيجة للنمو الاقتصادي الكبير. والهند، الديمقراطية الأكبر في العالم ستصبح في نهاية القرن، أكثر سكانا من الصين، بينما ستصبح اليابان مركزا متقدما لأميركا أو بلدا يدور في فلك الصين. أما الولايات المتحدة فهي قوة إمبريالية مآلها الانحطاط وأوروبا ستتقلص طموحاتها حيث سيكون دخل الفرد فيها بأفق عام 2100 أقل مما هو عليه الآن.
وإذا كانت بلدان شرق آسيا وجنوب أميركا وإفريقيا السوداء مرشحة للنمو الاقتصادي ولاستمرار نزاعاتها الاثنية والعقائدية تبقى منطقة الشرق الأوسط والقوس الممتد من المغرب إلى الباكستان بؤرة النزاعات بامتياز.
هناك عدد من المناطق يبدو أنها سوف تحتل مكانة أساسية في خارطة القوى الكبرى في العالم خلال العقود القادمة. ويحدد الأول في الصف الأول منها الصين والهند والولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي وروسيا. وبعد أن يشير المؤلف إلى صعوبة الحديث عن احتمالات الخارطة الجديدة للعالم في أفق مائة عام قادمة يرى أنه لا بد من التركيز على ما يبدو ضروريا لفهم اللعبة الاقتصادية والجغرافية العالمية.
هكذا اختار التعرض للعمالقة الثلاثة الكبار في آسيا أي الصين والهند واليابان ثم لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا. هذه المناطق يتم التعرّض لها على أساس حدودها الحالية لكن مع قراءة لإمكانيات تغيّر هذه الحدود لاحقا. ويكرّس المؤلف فصلا كاملا لاستقرار ما يراه تطورات محتملة في مناطق القوس الممتد من مراكش إلى كابول وبقية آسيا وجنوب أميركا وإفريقيا الواقعة جنوب الصحراء (إفريقيا السوداء).
مناطق الصف الأول
يبدأ المؤلف بالحديث عن «الصين، بعد الاستيقاظ»، حيث إن هذه البلاد حققت نموا في إجمالي إنتاجها الداخلي يفوق نسبة ال9 بالمائة خلال سنوات 1997-2006. وهذه الزيادة تتوازى مع ما يساويها بالنسبة لدخل الفرد الصيني نظرا إلى أن السكان لا يزيدون سوى بنسبة 1,0 بالمائة سنويا. وكانت الصين قد ورثت من حقبة حكم ماو تسي تونغ دولة متسلطة لا يزال يقودها الشيوعيون.
وتتم الإشارة إلى أنه يكفي إدراك ما يعنيه تحقيق نمو اقتصادي سنوي بنسبة 10 بالمائة تقريبا في مجتمع لاستنتاج قائمة أشكال الخلل الداخلي التي سيكون على السلطة الصينية مواجهتها. إن زيادة عدد سكان المدن وتعاظم الإنتاج سوف تتم ترجمته بزيادة كبيرة في الحاجة إلى البنى الأساسية في قطاعات النقل والسكن والتنظيم العمراني والصحة وغيرها. كذلك سوف يتعاظم الطلب في ميدان الطاقة خاصة. بالتالي سوف تكون الاستثمارات المطلوبة هائلة وإذا لم يتم توفيرها لن يتأخر الازدهار الصيني كله عن التقهقر.
ثم إن النمو الاقتصادي الكبير سوف يقود الصين إلى مواجهة خللين كانت قد عرفتهما قبلها الدول التي سلكت نفس الطريق. الخلل الأول هو ديمغرافي فالمقاطعات الواقعة على الشواطئ سوف تتطوّر بسرعة أكبر من المناطق الداخلية وسيترتب على هذا تفاوت في الدخل وسيزداد الخلل بين المدن والأرياف وبالتالي هجرات نحو التجمّعات المدينية الكبرى وبتسارع قد يفوق كثيرا عدد فرص العمل التي يوفرها النمو.
من جهة أخرى، وفيما هو أبعد من أشكال الخلل هذه، سوف يؤدي الإجراء الذي اتخذته السلطات حول الحد من من النسل والذي شجّع بدون شك ازدهار الصين سوف يولّد خلال العقود القادمة تسارع شيخوخة السكان وبالتالي ستكون له آثاره السلبية على النمو الاقتصادي مهما كانت السياسة المستقبلية بهذا الخصوص.
إن مساحة البلاد الشاسعة وعدد سكانها الهائل وأشكال الخلل الداخلي التي تلوح في الأفق، أمور ستؤدي مجتمعة إلى نوع من الفوضى التي لن يكون بمقدور المركز السياسي مهما كانت سلطته، فرض توجهاته على الجميع. وعندها يغدو الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي في الميزان.
وفي المحصلة سوف يؤدي اندماج الصين في النسيج العالمي خلال القرن الجاري إلى توترات كبيرة إذا لم تتحمل سلطات هذه البلاد مسؤولياتها العالمية. لكن ماذا سيكون مستقبل هذه السلطات؟
هذا هو السؤال الذي يشغل أذهان المراقبين. الفرضيات التي يتم تقديمها تتلخص في القول باحتمال أن تحلّ الديمقراطية تدريجيا في الصين ابتداء من منعطف قد يأتي بعد 15 سنة من الآن بحيث تتم المحافظة على وجود سلطة مركزية قوية مع انتخابات حرّة. وهناك فرضية أن يدفع الهلع الحزب الشيوعي الصيني إلى التصلّب أكثر ورفض أية إصلاحات سياسية. وفرضية ثالثة هي تناوب فترات الاستبداد وشبه الحريات على مدى عدة عقود قادمة. لكن إذا صممت السلطة على تشددها فأفق المظاهرات والاضطرابات يلوح في الأفق.
مستقبل التطور الهندي
والهند، الديمقراطية الأكبر في العالم، فإنه ينبغي أن لا يغيب عن الذهن أنها لاتزال بلدا فقيرا رغم أنها حققت نموا اقتصاديا بنسبة 6، 6 بالمائة سنويا خلال سنوات 1997-2006. لكن الزيادة السكانية بمعدل 1،7 بالمائة سنويا امتصّت جزءًا هاما من ثمرات النمو. وتدل المؤشرات الديمغرافية على أن هذه الزيادة السكانية سوف تتباطأ من الآن وحتى أفق عام 2030 حيث ستزول تماما وعندها ستكون الهند هي الأكبر من حيث عدد السكان قبل الصين.
وفيما هو أبعد من التفاوت الكبير في الدخل بالهند، ووجود سوق عمل «يراوح في مكانه» في المؤسسات الكبرى مقابل سوق عمل آخر «غير رسمي» يتطور بسرعة كبيرة، وما يعاني منه النظام التربوي الهندي من عجز، يبقى السؤال المركزي الذي سيواجه الهند خلال العقود القادمة هو معرفة ما ستكون عليه العلاقات بين الديمقراطية والنمو الاقتصادي الكبير؟
ويرى المؤلف أنه لا ينبغي لصورة «اللاعنف» السائدة عن الهند أن تخفي الوجه الآخر للمجتمع الهندي، وبالتحديد الوجه العنيف. لا شك أن الديمقراطية الهندية قد نجحت حتى الآن في إدارة التوترات والنزاعات في البلاد.
وهذا يسمح بالقول إن الهند تعاني بدرجة أقل من الصين فيما يتعلق بأفق القطيعة. لكن للهند مشاكل حدودية كبيرة مع الباكستان في الغرب ومع بنغلاديش في الشرق ومع سيريلانكا في الجنوب ومع الصين في الشمال. هذا ويمكن للهند أن تجد نفسها في حالة تنافس كبير مع الصين حول النفوذ في إفريقيا وفي جنوب شرق آسيا. ولا شك أن التبدلات الجارية للقوى السياسية والاقتصادي في المناطق المحيطة بالهند ومناطق نفوذها «مستقبلا» سوف تؤدي إلى انبثاق «جغرافيا جديدة» خلال القرن الحادي والعشرين.
التراجع الياباني
واليابان التي حققت معجزة اقتصادية خلال سنوات 1960-1990 شهدت «فجأة» انهيار أسطورتها منذ مطلع عقد التسعينات الماضي وحيث لم تخقق خلال سنوات 1997-2006 سوى نسبة نمو اقتصادي 1,1 بالمائة سنويا، وبالتوازي توقفت تقريبا الزيادة السكانية. وكل المؤشرات تدل على أن نسبة مشاركة اليابان في الإنتاج العالمي ؟
6؟1 بالمائة حاليا- سوف تتراجع مستقبلا، مثلما هو الحال بالنسبة لأوروبا. والسؤال المستقبلي الأكبر بالنسبة لليابان هو: هل ستصبح مركزا متقدما للولايات المتحدة على عتبة القارة الآسيوية أم ستتحول شيئا فشيئا إلى بلد يدور في تلك الصين الإمبريالية؟ ما تؤكده التحليلات المقدّمة هو أن مستقبل اليابان سيتأثر إلى حد كبير بالمسار الذي سيعرفه الأميركيون والصينيون. ويبقى التقدم التكنولوجي هو الورقة الأهم بيد اليابانيين.
وتحت عنوان «الولايات المتحدة، نحو انحطاط قوة إمبريالية»، يرى مؤلف هذا الكتاب أن هذه البلاد تأرجحت دائما بين توجهين أساسيين هما الانعزال عن العالم والاهتمام بالشأن الأميركي أو الانفتاح على هذا العالم ولعب دور الشرطي فيه باسم «زعامة العالم الحر». لكن الولايات المتحدة تواجه واقع تدهور قوتها في العالم وسوف تعاني كثيرا من هذا خلال القرن الحالي مما سوف يدفعها لمحاولة الاحتفاظ بهيمنتها على أوروبا واليابان على الأقل.
وستحاول تجنّب قيام تقارب بين أوروبا وروسيا وبنفس الوقت ستحافظ على علاقات وثيقة «لكن صعبة» مع الصين والهند. وبالنسبة للشرق الأوسط نقرأ: «إن طريقها الشائك ـ أميركا ـ في الشرق الأوسط لا يزال طويلا وتبعيتها حيال الدولة العبرية لن تساعدها في التقدم نحو إيجاد حل للمشكلة الفلسطينية». ويشير المؤلف هنا إلى أن وصول باراك اوباما إلى السلطة يعلن عن إدراك أكبر لحقائق القرن الحادي والعشرين مما سيصب في فائدة العالم كله. تضاف إلى هذا أوراق رابحة بيد أميركا تتمثل في القدرة الخلاقة لاقتصادها وقوتها العسكرية الاستثنائية.
القرن ليس مواتيا لأميركا
ويصل المؤلف إلى القول: «إننا بعيدون عن الصورة التي يرسمها الأميركيون لأنفسهم وعن الصورة القديمة التي كان يرسمها العالم الثالث للولايات المتحدة. وهناك احتمال كبير أن يكون القرن الحادي والعشرين ليس مؤاتيا للولايات المتحدة لم تعد تمتلك بناء نظام دولي لكن ديمقراطيتها وقدرتها الاقتصادية الخلاّقة ستلهم الكثيرين».
ويحدد المؤلف ثلاث سيناريوهات لمكانة «أوروبا» في عالم الغد. السيناريو الأول هو أن يؤدي الاتحاد الأوروبي الحالي إلى قيام اتحادية مستقرّة في أفق العقود القادمة، والثاني معاناة الاتحاد الأوروبي من أزمات متتالية وتخلّي بعض الدول الأوروبية عن عضويتها فيه، والثالث تقدم الاتحاد البطيء بالتوازي مع تعزز التعايش بين الأجيال الأوروبية. وهذا السيناريو الثالث يراه المؤلف أنه الأكثر احتمالا.
ويتم التأكيد أن القرن الحادي والعشرين سيكون أقل صعوبة بالنسبة لأوروبا مما هو بالنسبة للولايات المتحدة. ذلك أن طموح الأوروبيين أقل وهم يدركون أن دخل الفرد الأوروبي في أفق عام 2100 قد يكون أقل مما هو عليه اليوم. وروسيا يتم تحديد تطورها في نفس المنظور الأوروبي فمستقبلها مرهون بما يمكن أن تحققه من تجديد لقواها. لكن سيكون من الخطأ دائما تجاهلها كما يفعل الراديكاليون الأميركيون.
وبقية العالم
يركز المؤلف في الصفحات التي يكرّسها ل»بقية العالم» على القول أن منطقة شرق آسيا الواقعة شرق الباكستان ستعرف بلدانها استمرار نموّها الاقتصادي خلال عقود قادمة. لكن سيكون من المطلوب السيطرة على عدة بؤر متفجرة لنزاعات اثنية أو عقائدية. ونفس «التشخيص» عامة فيما يخص بلدان جنوب أميركا وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء. هذا مع إضافة أن القارة الإفريقية ستكون موضع صراعات على النفوذ بين الصين والهند والولايات المتحدة والقوى الاستعمارية السابقة وبلدان الشرق الأوسط.
بالنسبة للمنطقة الممتدة من المغرب إلى أفغانستان والباكستان، بعد أن يؤكد المؤلف على «تنافر» مكوناتها يرى أن أهميتها الاستراتيجية ستستمر خلال العقود القادمة فهي تمتلك أكبر الاحتياطات العالمية من النفط والغاز. وسيبقى مصدر النزاع الرئيسي فيها الصراع العربي-الإسرائيلي. ويشير المؤلف أن ما تحتوي عليه هذه المنطقة من نزاعات متفجرة أو كامنة يفوق غيرها من مناطق العالم. مع ذلك ليس هناك أية دراسات مستقبلية جادة حيالها. ولذلك سيكتفي بتقديم عدة «فرضيات»، حسب تعبيره.
وفي مقدمة هذه الفرضيات قوله إن المنطقة ستشهد عدة «قطيعات»، لكن الحكومات المعتدلة ستتكشّف على أنها أكثر صلابة مما يظنّ البعض. وستتابع البلدان المنتجة للطاقة صادراتها مع احتمال تخفيضها نظرا لعدم كفاية الاستثمارات في مجال البحث ورغبة في عدم التعجيل بحلول فترة ما بعد البترول. وفي الوقت الذي سيزداد فيه النفوذ الروسي في آسيا الوسطى، خاصة في قزخستان، ستفشل جهود الولايات المتحدة في جذب المنطقة نحو الغرب وهناك أمل كبير في أن تصبح تركيا عضوا في الاتحاد الأوروبي، وإيران النووية أو غير النووية ستعود إلى جوقة الأمم. ومنطقة الشرق الأوسط لن تعرف الاستقرار إذا لم يتم عقد اتفاقية سلام بين سوريا وإسرائيل.
ويؤكد المؤلف أن «الصين بعد الاستيقاظ» سوف تواجه عددا من أشكال الخلل الداخلي التي سيكون على السلطة الصينية مواجهتها. ذلك كله نتيجة للنمو الاقتصادي الكبير. والهند، الديمقراطية الأكبر في العالم ستصبح في نهاية القرن، أكثر سكانا من الصين، بينما ستصبح اليابان مركزا متقدما لأميركا أو بلدا يدور في فلك الصين. أما الولايات المتحدة فهي قوة إمبريالية مآلها الانحطاط وأوروبا ستتقلص طموحاتها حيث سيكون دخل الفرد فيها بأفق عام 2100 أقل مما هو عليه الآن.
وإذا كانت بلدان شرق آسيا وجنوب أميركا وإفريقيا السوداء مرشحة للنمو الاقتصادي ولاستمرار نزاعاتها الاثنية والعقائدية تبقى منطقة الشرق الأوسط والقوس الممتد من المغرب إلى الباكستان بؤرة النزاعات بامتياز.
هناك عدد من المناطق يبدو أنها سوف تحتل مكانة أساسية في خارطة القوى الكبرى في العالم خلال العقود القادمة. ويحدد الأول في الصف الأول منها الصين والهند والولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي وروسيا. وبعد أن يشير المؤلف إلى صعوبة الحديث عن احتمالات الخارطة الجديدة للعالم في أفق مائة عام قادمة يرى أنه لا بد من التركيز على ما يبدو ضروريا لفهم اللعبة الاقتصادية والجغرافية العالمية.
هكذا اختار التعرض للعمالقة الثلاثة الكبار في آسيا أي الصين والهند واليابان ثم لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا. هذه المناطق يتم التعرّض لها على أساس حدودها الحالية لكن مع قراءة لإمكانيات تغيّر هذه الحدود لاحقا. ويكرّس المؤلف فصلا كاملا لاستقرار ما يراه تطورات محتملة في مناطق القوس الممتد من مراكش إلى كابول وبقية آسيا وجنوب أميركا وإفريقيا الواقعة جنوب الصحراء (إفريقيا السوداء).
مناطق الصف الأول
يبدأ المؤلف بالحديث عن «الصين، بعد الاستيقاظ»، حيث إن هذه البلاد حققت نموا في إجمالي إنتاجها الداخلي يفوق نسبة ال9 بالمائة خلال سنوات 1997-2006. وهذه الزيادة تتوازى مع ما يساويها بالنسبة لدخل الفرد الصيني نظرا إلى أن السكان لا يزيدون سوى بنسبة 1,0 بالمائة سنويا. وكانت الصين قد ورثت من حقبة حكم ماو تسي تونغ دولة متسلطة لا يزال يقودها الشيوعيون.
وتتم الإشارة إلى أنه يكفي إدراك ما يعنيه تحقيق نمو اقتصادي سنوي بنسبة 10 بالمائة تقريبا في مجتمع لاستنتاج قائمة أشكال الخلل الداخلي التي سيكون على السلطة الصينية مواجهتها. إن زيادة عدد سكان المدن وتعاظم الإنتاج سوف تتم ترجمته بزيادة كبيرة في الحاجة إلى البنى الأساسية في قطاعات النقل والسكن والتنظيم العمراني والصحة وغيرها. كذلك سوف يتعاظم الطلب في ميدان الطاقة خاصة. بالتالي سوف تكون الاستثمارات المطلوبة هائلة وإذا لم يتم توفيرها لن يتأخر الازدهار الصيني كله عن التقهقر.
ثم إن النمو الاقتصادي الكبير سوف يقود الصين إلى مواجهة خللين كانت قد عرفتهما قبلها الدول التي سلكت نفس الطريق. الخلل الأول هو ديمغرافي فالمقاطعات الواقعة على الشواطئ سوف تتطوّر بسرعة أكبر من المناطق الداخلية وسيترتب على هذا تفاوت في الدخل وسيزداد الخلل بين المدن والأرياف وبالتالي هجرات نحو التجمّعات المدينية الكبرى وبتسارع قد يفوق كثيرا عدد فرص العمل التي يوفرها النمو.
من جهة أخرى، وفيما هو أبعد من أشكال الخلل هذه، سوف يؤدي الإجراء الذي اتخذته السلطات حول الحد من من النسل والذي شجّع بدون شك ازدهار الصين سوف يولّد خلال العقود القادمة تسارع شيخوخة السكان وبالتالي ستكون له آثاره السلبية على النمو الاقتصادي مهما كانت السياسة المستقبلية بهذا الخصوص.
إن مساحة البلاد الشاسعة وعدد سكانها الهائل وأشكال الخلل الداخلي التي تلوح في الأفق، أمور ستؤدي مجتمعة إلى نوع من الفوضى التي لن يكون بمقدور المركز السياسي مهما كانت سلطته، فرض توجهاته على الجميع. وعندها يغدو الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي في الميزان.
وفي المحصلة سوف يؤدي اندماج الصين في النسيج العالمي خلال القرن الجاري إلى توترات كبيرة إذا لم تتحمل سلطات هذه البلاد مسؤولياتها العالمية. لكن ماذا سيكون مستقبل هذه السلطات؟
هذا هو السؤال الذي يشغل أذهان المراقبين. الفرضيات التي يتم تقديمها تتلخص في القول باحتمال أن تحلّ الديمقراطية تدريجيا في الصين ابتداء من منعطف قد يأتي بعد 15 سنة من الآن بحيث تتم المحافظة على وجود سلطة مركزية قوية مع انتخابات حرّة. وهناك فرضية أن يدفع الهلع الحزب الشيوعي الصيني إلى التصلّب أكثر ورفض أية إصلاحات سياسية. وفرضية ثالثة هي تناوب فترات الاستبداد وشبه الحريات على مدى عدة عقود قادمة. لكن إذا صممت السلطة على تشددها فأفق المظاهرات والاضطرابات يلوح في الأفق.
مستقبل التطور الهندي
والهند، الديمقراطية الأكبر في العالم، فإنه ينبغي أن لا يغيب عن الذهن أنها لاتزال بلدا فقيرا رغم أنها حققت نموا اقتصاديا بنسبة 6، 6 بالمائة سنويا خلال سنوات 1997-2006. لكن الزيادة السكانية بمعدل 1،7 بالمائة سنويا امتصّت جزءًا هاما من ثمرات النمو. وتدل المؤشرات الديمغرافية على أن هذه الزيادة السكانية سوف تتباطأ من الآن وحتى أفق عام 2030 حيث ستزول تماما وعندها ستكون الهند هي الأكبر من حيث عدد السكان قبل الصين.
وفيما هو أبعد من التفاوت الكبير في الدخل بالهند، ووجود سوق عمل «يراوح في مكانه» في المؤسسات الكبرى مقابل سوق عمل آخر «غير رسمي» يتطور بسرعة كبيرة، وما يعاني منه النظام التربوي الهندي من عجز، يبقى السؤال المركزي الذي سيواجه الهند خلال العقود القادمة هو معرفة ما ستكون عليه العلاقات بين الديمقراطية والنمو الاقتصادي الكبير؟
ويرى المؤلف أنه لا ينبغي لصورة «اللاعنف» السائدة عن الهند أن تخفي الوجه الآخر للمجتمع الهندي، وبالتحديد الوجه العنيف. لا شك أن الديمقراطية الهندية قد نجحت حتى الآن في إدارة التوترات والنزاعات في البلاد.
وهذا يسمح بالقول إن الهند تعاني بدرجة أقل من الصين فيما يتعلق بأفق القطيعة. لكن للهند مشاكل حدودية كبيرة مع الباكستان في الغرب ومع بنغلاديش في الشرق ومع سيريلانكا في الجنوب ومع الصين في الشمال. هذا ويمكن للهند أن تجد نفسها في حالة تنافس كبير مع الصين حول النفوذ في إفريقيا وفي جنوب شرق آسيا. ولا شك أن التبدلات الجارية للقوى السياسية والاقتصادي في المناطق المحيطة بالهند ومناطق نفوذها «مستقبلا» سوف تؤدي إلى انبثاق «جغرافيا جديدة» خلال القرن الحادي والعشرين.
التراجع الياباني
واليابان التي حققت معجزة اقتصادية خلال سنوات 1960-1990 شهدت «فجأة» انهيار أسطورتها منذ مطلع عقد التسعينات الماضي وحيث لم تخقق خلال سنوات 1997-2006 سوى نسبة نمو اقتصادي 1,1 بالمائة سنويا، وبالتوازي توقفت تقريبا الزيادة السكانية. وكل المؤشرات تدل على أن نسبة مشاركة اليابان في الإنتاج العالمي ؟
6؟1 بالمائة حاليا- سوف تتراجع مستقبلا، مثلما هو الحال بالنسبة لأوروبا. والسؤال المستقبلي الأكبر بالنسبة لليابان هو: هل ستصبح مركزا متقدما للولايات المتحدة على عتبة القارة الآسيوية أم ستتحول شيئا فشيئا إلى بلد يدور في تلك الصين الإمبريالية؟ ما تؤكده التحليلات المقدّمة هو أن مستقبل اليابان سيتأثر إلى حد كبير بالمسار الذي سيعرفه الأميركيون والصينيون. ويبقى التقدم التكنولوجي هو الورقة الأهم بيد اليابانيين.
وتحت عنوان «الولايات المتحدة، نحو انحطاط قوة إمبريالية»، يرى مؤلف هذا الكتاب أن هذه البلاد تأرجحت دائما بين توجهين أساسيين هما الانعزال عن العالم والاهتمام بالشأن الأميركي أو الانفتاح على هذا العالم ولعب دور الشرطي فيه باسم «زعامة العالم الحر». لكن الولايات المتحدة تواجه واقع تدهور قوتها في العالم وسوف تعاني كثيرا من هذا خلال القرن الحالي مما سوف يدفعها لمحاولة الاحتفاظ بهيمنتها على أوروبا واليابان على الأقل.
وستحاول تجنّب قيام تقارب بين أوروبا وروسيا وبنفس الوقت ستحافظ على علاقات وثيقة «لكن صعبة» مع الصين والهند. وبالنسبة للشرق الأوسط نقرأ: «إن طريقها الشائك ـ أميركا ـ في الشرق الأوسط لا يزال طويلا وتبعيتها حيال الدولة العبرية لن تساعدها في التقدم نحو إيجاد حل للمشكلة الفلسطينية». ويشير المؤلف هنا إلى أن وصول باراك اوباما إلى السلطة يعلن عن إدراك أكبر لحقائق القرن الحادي والعشرين مما سيصب في فائدة العالم كله. تضاف إلى هذا أوراق رابحة بيد أميركا تتمثل في القدرة الخلاقة لاقتصادها وقوتها العسكرية الاستثنائية.
القرن ليس مواتيا لأميركا
ويصل المؤلف إلى القول: «إننا بعيدون عن الصورة التي يرسمها الأميركيون لأنفسهم وعن الصورة القديمة التي كان يرسمها العالم الثالث للولايات المتحدة. وهناك احتمال كبير أن يكون القرن الحادي والعشرين ليس مؤاتيا للولايات المتحدة لم تعد تمتلك بناء نظام دولي لكن ديمقراطيتها وقدرتها الاقتصادية الخلاّقة ستلهم الكثيرين».
ويحدد المؤلف ثلاث سيناريوهات لمكانة «أوروبا» في عالم الغد. السيناريو الأول هو أن يؤدي الاتحاد الأوروبي الحالي إلى قيام اتحادية مستقرّة في أفق العقود القادمة، والثاني معاناة الاتحاد الأوروبي من أزمات متتالية وتخلّي بعض الدول الأوروبية عن عضويتها فيه، والثالث تقدم الاتحاد البطيء بالتوازي مع تعزز التعايش بين الأجيال الأوروبية. وهذا السيناريو الثالث يراه المؤلف أنه الأكثر احتمالا.
ويتم التأكيد أن القرن الحادي والعشرين سيكون أقل صعوبة بالنسبة لأوروبا مما هو بالنسبة للولايات المتحدة. ذلك أن طموح الأوروبيين أقل وهم يدركون أن دخل الفرد الأوروبي في أفق عام 2100 قد يكون أقل مما هو عليه اليوم. وروسيا يتم تحديد تطورها في نفس المنظور الأوروبي فمستقبلها مرهون بما يمكن أن تحققه من تجديد لقواها. لكن سيكون من الخطأ دائما تجاهلها كما يفعل الراديكاليون الأميركيون.
وبقية العالم
يركز المؤلف في الصفحات التي يكرّسها ل»بقية العالم» على القول أن منطقة شرق آسيا الواقعة شرق الباكستان ستعرف بلدانها استمرار نموّها الاقتصادي خلال عقود قادمة. لكن سيكون من المطلوب السيطرة على عدة بؤر متفجرة لنزاعات اثنية أو عقائدية. ونفس «التشخيص» عامة فيما يخص بلدان جنوب أميركا وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء. هذا مع إضافة أن القارة الإفريقية ستكون موضع صراعات على النفوذ بين الصين والهند والولايات المتحدة والقوى الاستعمارية السابقة وبلدان الشرق الأوسط.
بالنسبة للمنطقة الممتدة من المغرب إلى أفغانستان والباكستان، بعد أن يؤكد المؤلف على «تنافر» مكوناتها يرى أن أهميتها الاستراتيجية ستستمر خلال العقود القادمة فهي تمتلك أكبر الاحتياطات العالمية من النفط والغاز. وسيبقى مصدر النزاع الرئيسي فيها الصراع العربي-الإسرائيلي. ويشير المؤلف أن ما تحتوي عليه هذه المنطقة من نزاعات متفجرة أو كامنة يفوق غيرها من مناطق العالم. مع ذلك ليس هناك أية دراسات مستقبلية جادة حيالها. ولذلك سيكتفي بتقديم عدة «فرضيات»، حسب تعبيره.
وفي مقدمة هذه الفرضيات قوله إن المنطقة ستشهد عدة «قطيعات»، لكن الحكومات المعتدلة ستتكشّف على أنها أكثر صلابة مما يظنّ البعض. وستتابع البلدان المنتجة للطاقة صادراتها مع احتمال تخفيضها نظرا لعدم كفاية الاستثمارات في مجال البحث ورغبة في عدم التعجيل بحلول فترة ما بعد البترول. وفي الوقت الذي سيزداد فيه النفوذ الروسي في آسيا الوسطى، خاصة في قزخستان، ستفشل جهود الولايات المتحدة في جذب المنطقة نحو الغرب وهناك أمل كبير في أن تصبح تركيا عضوا في الاتحاد الأوروبي، وإيران النووية أو غير النووية ستعود إلى جوقة الأمم. ومنطقة الشرق الأوسط لن تعرف الاستقرار إذا لم يتم عقد اتفاقية سلام بين سوريا وإسرائيل.
مستقبل عالمنا رهين بمكتشفات العلم
والتكنولوجيا
مطلوب من الإنسان التأمل في
التحديات التي يطرحها هذا القرن الحادي
والعشرون. ويرى مؤلف هذا الكتاب أن جميع هذه التحديات المتعلقة بالتغيّر المناخي أو بمخاطر الأوبئة أو بالعولمة
الاقتصادية ينبغي المواجهة بنسق
منظّم.
ويتم التنبيه أولا من خطورة تلك التحليلات التي تقدم سببا وحيدا لهذا الحدث أو ذاك، ذلك أنه ينبغي البحث عن أسبابها الأكثر عمقا. والتنبيه أيضا من التصريحات التي تطلقها وسائل الإعلام التي تحاول أن تصيغ في جملة واحدة أحيانا دواء ناجعا لظواهر في غاية التعقيد.
ومن المشاكل التي يؤكد عليها المؤلف هناك العلاقة بين الأفراد والمجموعات. فهذه العلاقة تتبلورحولها مشاكل تكدّست على مدى عقود طويلة. وعندما يقول رئيس الجمهورية الفرنسية نيكولا ساركوزي: «ترى فرنسا أن...»، فإنه يعبّر كفرد انتخبته أغلبية وبالتالي يمكن القول أنه يعبر باسم جميع المواطنين، وحتى أولئك بينهم الذين يعتقدون أن الآراء التي يعبّر عنها خاطئة. وكان الأمر أكثر وضوحا بالنسبة للرئيس جورج دبليو بوش الذي كان ينفذ سياساته ووراءه إدارته، الأمر الذي لا يمنع حقيقة أن العديدين في العالم كانوا يرفضون الخلط بين رئيس الولايات المتحدة «الفرد» وبين الشعب الأميركي ك«مجموع».
ومن الشائع أن تقوم الحكومات بتقديم الوعود دون أن تأخذ في أحيان كثيرة أنها لا تملك وسائل تحقيق تلك الوعود. مثل هذه الوعود ينبغي أن يتجنّب اللجوء إليها أولئك الذين يهتمون باستشراف المستقبل وإعطاء أهمية كبيرة بالدقّة عندما يتحدثون عن السوق العالمي للبترول وعن النمو الاقتصادي الصيني والفقاعات المالية والشركات متعددة الجنسيات والحركات الإرهابية.
وتتم الإشارة في هذا السياق إلى أن بعض أحداث التاريخ تتولّد من «منعطفات» ما كان أحد قد تعرّض لذكرها من قبل. والخطورة الكبرى في الدراسات المستقبلية تتمثل، حسب رأي مؤلف هذا الكتاب، في تقديم قراءات «تبسيطية» للعبة الدولية أو اللجوء إلى «تعميمات» لا تأخذ في اعتبارها واقع أنه ينبغي النظر إلى المستقبل ب«صيغة الجمع» وليس ب«صيغة المفرد» باسم «قوانين التاريخ» أو غيرها.
وتتمثل نقطة الانطلاق التي يتم التأكيد عليها في استشراف المستقبل بالانطلاق من مسلّمة واضحة هي أن الفرضيات التي تعتمد عليها في قراءة المستقبل لا تمتلك أية مادة أولية سوى المعرفة التي كدّستها البشرية والمتوفرة في الزمن الحاضر. لكن هذه المعرفة تشابه كثيرا «كهف علي بابا» فيها الرث والثمين والقراءات المتنوعة للماضي والمعطيات الرقمية والمعلومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
لكن رغم هذا كله لا بد للمهتمّ بالمستقبل إلا أن يعتمد عليها ف«المستقبل لا يتم استشرافه عن طريق الحدس». وإذا كان المؤلف يؤكد على وجود أصحاب بعض العقول النيّرة ذات الثقافة الواسعة والتجربة المهنية العميقة التي قد تساعد على التفكير المستقبلي، فإنه بالمقابل حاسم في التأكيد أنه لن يكون هناك أي عمل مقبول حول المستقبل إلا على قاعدة بذل جهود كبيرة من أجل جمع المعلومات وكذلك شريطة أن يتم الاعتماد على إحصائيات دقيقة. وأيضا شريطة قبول أن احتمالات المستقبل «متعددة»، لكنها تنطلق كلها من الحاضر.
ويسوق المؤلف أمثلة عديدة على خطأ «التوقعات المستقبلية» أو عجزها عن ترقّب مستجدات لم تكن في الحسبان. هكذا لم يستقرئ خبراء الديموغرافيا الأوروبيين عام 1963 أن أوروبا سوف تشهد انخفاضا كبيرا في الولادات، وكانت مفاجأتهم كبيرة أمام انخفاضها السريع خلال العقدين الأخيرين في بعض مناطق العالم الثالث. لكن هذا لا يمنع واقع أنه يمكن ترقّب ما سيكون عليه عدد سكان العالم خلال فترة قصيرة قادمة كعقود ثلاثة مع هامش خطأ طفيف، إلا في حالة وقوع أحداث كبرى «مفاجئة» مثل الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن العشرون. من هنا يتم التأكيد أنه من الصعوبة بمكان القول «بثقة» إذا كان عدد سكان العالم سيكون في نهاية هذا القرن الحادي والعشرين هو 9 مليارات نسمة أو أكثر أو أقل.
ولا يتردد المؤلف في القول أن مستقبل عالمنا مرهون إلى حد كبير بمكتشفات العلم الكبرى وبما ستؤول إليه مسيرة التجديد التكنولوجي. لكن لا أحد يستطيع بالمقابل أن يجزم بعدم وقوع حوادث «نووية» تنشر إشعاعات قد تقتل ملايين البشر. ثم إن ثورة المعلوماتية والاتصالات التي ترتبت على الصناعة «الرقمية» أحدثت قطيعة حقيقية مع الفترة السابقة. بهذا المعنى يمكن للعلم والتكنولوجيات أن تكون سببا كبيرا في إشاعة حالة من عدم الثبات، بل والتشوش في المسيرة الإنسانية.
وأحداث التاريخ يمكنها هي الأخرى أن تساهم في تحديد مسار ما بعدها. وكم من أحداث الماضي كان منها أن تجعل التاريخ ينمو في اتجاه آخر، ويتساءل المؤلف: «ماذا لو كان نابليون قد انتصر في معركة واترلو ولو أن محاولة اغتيال هتلر قد نجحت ولو أن انجليزيا أو فرنسيا كان هو الذي اكتشف أميركا «العالم الجديد» وليس كريستوف كولومبس.
ما يتم التأكيد عليه في هذا السياق هو عدم الاكتفاء بقراءة «وحيدة النظرة» إلى الماضي. هكذا ينبغي مثلا لأولئك الذي يحاول استقراء مستقبل الطاقة في أوروبا أن يدرك أن الأوروبيين كانوا قد عرفوا مرحلتين انتقاليتين في تاريخهم الحديث مع ميدان الطاقة. الأولى في نهاية القرن الثامن عشر عندما أدّى التصنيع إلى انحسار الغابات واستخدام الفحم مع اختراع الآلة البخارية. والمرحلة الثانية كانت في بدايات القرن العشرين مع اكتشاف حقول النفط. في هاتين المرحلتين استغرق «الانتقال» من حالة إلى أخرى حوالي 50 سنة. وهذه الفترة هي التي يحددها المؤلف بالنسبة للمرحلة الانتقالية الحالية المترتبة على ثورة المعلوماتية والاتصال الرقمي.
«قراءة المستقبل» تتطّلب بالنتيجة، كما يرى المؤلف، توفّر شرطين أساسيين هما «الحزم والمخيلة». فبدون مخيلة، لا يمكن تصور إلا أشكال مستقبلية تشابه الحاضر القائم،هذا إذا لم يتم تشويه هذا الحاضر. ولكن دون حزم، يغدو المستقبل، كما يتم رسمه، مجموعة من التهويمات التي لا تجد سندها في الواقع. ومنهج البحث المستقبلي لا يمكن أن يكون سلسلة من المعلومات والحسابات ولكن مراحل تتطلّب «تشغيل المخيلة» واللجوء إلى «المحاكمة العقلية».
ويستوجب استقراء المستقبل أيضا ثقافة واسعة ومعارف مهنية متأصّلة بحيث يتم استخدام مختلف مشارب البحث. ذلك أنه لا يمكن تصوّر «استشراف ملامح المستقبل» بالاعتماد فقط على معطيات اقتصادية أو تقنية أو سياسية. ولا يكفي في هذا الإطار عمل «الهواية» بل لا بد من «الاحتراف» من أجل محاولة فهم توجهات المستقبل بكل تنوعها. وينتهي المؤلف إلى القول: «إذا نظرنا نحو المستقبل بجدية لا بد أن نفهم أنه مفتوح لاحتمالات عديدة. ولا ينفع في شيء أن نراه ملبّدا بالغيوم ذلك أن المستقبل سوف تصيغه أفعال الأفراد والجماعات وعليهم جميعا تصميم صورته». وينتهي إلى القول: «القرن الحادي والعشرون هو قرن مفتوح لكنه يضع الإنسانية أمام مجموعة من التحديات الجديدة».
استمرار أم قطيعة
يستخدم المهتمون باستقراء المستقبل الكثير من التعبيرات الشائعة مثل «منعطف» و«تسارع التاريخ» و«الانحطاط» و«الكارثة» و«البقاء» و«التهديد» و«التدمير»، وتعبيرات أخرى عديدة مأخوذة من مختلف أشكال النشاط الإنساني، لكنها مأخوذة أيضا من التاريخ «المضطرب» الذي عرفته الإنسانية خلال القرن العشرين. لكن المؤشرات كثيرة أيضا وخلاصة دراسات المهتمين بالمستقبل تصبّ كلها في القول أن القرن الحادي والعشرين قد يشهد هو الآخر «زيادة المخاطر».
ما يجمع عليه المختصون والخبراء هو أن القرن العشرين كان «رهيبا» أكثر من القرون التي سبقته حيث أنه شهد حربين كونيتين وسلسلة طويلة من المجازر دفعت إلى توصيفه أنه «القرن الأكثر سوادا والأكثر عنفا في تاريخ الإنسانية. لكن هذا لا يمنع من الإشارة أنه كان القرن الذي شهد تناقصا كبيرا في وفيّات الأطفال وزيادة هامة في سنوات العمر.
وعلى مستوى العنف العادي بدأ القرن الحادي والعشرين في مسار «استمرارية» ما كانت قد عرفته العقود الأخيرة من القرن العشرين. ذلك مع تدويل الإرهاب في ظل العولمة واستمرار العنف في بعض «النقاط الساخنة»، خاصة في فلسطين وبعض مناطق آسيا وأميركا اللاتينية. ويركّز المؤلف على القول أن الملفين اللذين يثيران أكبر درجة من القلق في العقود القادمة من هذا القرن الحادي والعشرين، هما «مرجل الشرق الأوسط من فلسطين إلى كابول وإلى إسلام آباد» و«تصاعد المآسي في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء».
وفي المحصلة يحدد المؤلف سمتين أساسيتين يبدأ فيهما القرن الحادي والعشرين. فمن جهة، لا يمكن القول أن المعطيات الخاصة ببقاء الإنسانية ليست مختلفة إلى حد كبير عن تلك التي كانت سائدة منذ قرنين من الزمن. ومن جهة أخرى، لم تترتب حتى الآن على التغيّر المناخي سوى بعض الآثار الثانوية وهناك ما يسمح بالقول أنه يمكن الحد من هذه الآثار عندما سيقتنع البشر بمدى حقيقة وخطورة ما تمثله هذه الظاهرة.
لكن رغم هذا يرى المؤلف أن مصدر الخطر الكبير يتمثل في الطريقة «الجديدة» لرؤية العالم والتي لا تشترك في شيء مع القناعات التي سمحت في الماضي ـ بالنسبة للغرب على الأقل ـ بالسيطرة على المغامرة الإنسانية.
ويتم التنبيه أولا من خطورة تلك التحليلات التي تقدم سببا وحيدا لهذا الحدث أو ذاك، ذلك أنه ينبغي البحث عن أسبابها الأكثر عمقا. والتنبيه أيضا من التصريحات التي تطلقها وسائل الإعلام التي تحاول أن تصيغ في جملة واحدة أحيانا دواء ناجعا لظواهر في غاية التعقيد.
ومن المشاكل التي يؤكد عليها المؤلف هناك العلاقة بين الأفراد والمجموعات. فهذه العلاقة تتبلورحولها مشاكل تكدّست على مدى عقود طويلة. وعندما يقول رئيس الجمهورية الفرنسية نيكولا ساركوزي: «ترى فرنسا أن...»، فإنه يعبّر كفرد انتخبته أغلبية وبالتالي يمكن القول أنه يعبر باسم جميع المواطنين، وحتى أولئك بينهم الذين يعتقدون أن الآراء التي يعبّر عنها خاطئة. وكان الأمر أكثر وضوحا بالنسبة للرئيس جورج دبليو بوش الذي كان ينفذ سياساته ووراءه إدارته، الأمر الذي لا يمنع حقيقة أن العديدين في العالم كانوا يرفضون الخلط بين رئيس الولايات المتحدة «الفرد» وبين الشعب الأميركي ك«مجموع».
ومن الشائع أن تقوم الحكومات بتقديم الوعود دون أن تأخذ في أحيان كثيرة أنها لا تملك وسائل تحقيق تلك الوعود. مثل هذه الوعود ينبغي أن يتجنّب اللجوء إليها أولئك الذين يهتمون باستشراف المستقبل وإعطاء أهمية كبيرة بالدقّة عندما يتحدثون عن السوق العالمي للبترول وعن النمو الاقتصادي الصيني والفقاعات المالية والشركات متعددة الجنسيات والحركات الإرهابية.
وتتم الإشارة في هذا السياق إلى أن بعض أحداث التاريخ تتولّد من «منعطفات» ما كان أحد قد تعرّض لذكرها من قبل. والخطورة الكبرى في الدراسات المستقبلية تتمثل، حسب رأي مؤلف هذا الكتاب، في تقديم قراءات «تبسيطية» للعبة الدولية أو اللجوء إلى «تعميمات» لا تأخذ في اعتبارها واقع أنه ينبغي النظر إلى المستقبل ب«صيغة الجمع» وليس ب«صيغة المفرد» باسم «قوانين التاريخ» أو غيرها.
وتتمثل نقطة الانطلاق التي يتم التأكيد عليها في استشراف المستقبل بالانطلاق من مسلّمة واضحة هي أن الفرضيات التي تعتمد عليها في قراءة المستقبل لا تمتلك أية مادة أولية سوى المعرفة التي كدّستها البشرية والمتوفرة في الزمن الحاضر. لكن هذه المعرفة تشابه كثيرا «كهف علي بابا» فيها الرث والثمين والقراءات المتنوعة للماضي والمعطيات الرقمية والمعلومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
لكن رغم هذا كله لا بد للمهتمّ بالمستقبل إلا أن يعتمد عليها ف«المستقبل لا يتم استشرافه عن طريق الحدس». وإذا كان المؤلف يؤكد على وجود أصحاب بعض العقول النيّرة ذات الثقافة الواسعة والتجربة المهنية العميقة التي قد تساعد على التفكير المستقبلي، فإنه بالمقابل حاسم في التأكيد أنه لن يكون هناك أي عمل مقبول حول المستقبل إلا على قاعدة بذل جهود كبيرة من أجل جمع المعلومات وكذلك شريطة أن يتم الاعتماد على إحصائيات دقيقة. وأيضا شريطة قبول أن احتمالات المستقبل «متعددة»، لكنها تنطلق كلها من الحاضر.
ويسوق المؤلف أمثلة عديدة على خطأ «التوقعات المستقبلية» أو عجزها عن ترقّب مستجدات لم تكن في الحسبان. هكذا لم يستقرئ خبراء الديموغرافيا الأوروبيين عام 1963 أن أوروبا سوف تشهد انخفاضا كبيرا في الولادات، وكانت مفاجأتهم كبيرة أمام انخفاضها السريع خلال العقدين الأخيرين في بعض مناطق العالم الثالث. لكن هذا لا يمنع واقع أنه يمكن ترقّب ما سيكون عليه عدد سكان العالم خلال فترة قصيرة قادمة كعقود ثلاثة مع هامش خطأ طفيف، إلا في حالة وقوع أحداث كبرى «مفاجئة» مثل الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن العشرون. من هنا يتم التأكيد أنه من الصعوبة بمكان القول «بثقة» إذا كان عدد سكان العالم سيكون في نهاية هذا القرن الحادي والعشرين هو 9 مليارات نسمة أو أكثر أو أقل.
ولا يتردد المؤلف في القول أن مستقبل عالمنا مرهون إلى حد كبير بمكتشفات العلم الكبرى وبما ستؤول إليه مسيرة التجديد التكنولوجي. لكن لا أحد يستطيع بالمقابل أن يجزم بعدم وقوع حوادث «نووية» تنشر إشعاعات قد تقتل ملايين البشر. ثم إن ثورة المعلوماتية والاتصالات التي ترتبت على الصناعة «الرقمية» أحدثت قطيعة حقيقية مع الفترة السابقة. بهذا المعنى يمكن للعلم والتكنولوجيات أن تكون سببا كبيرا في إشاعة حالة من عدم الثبات، بل والتشوش في المسيرة الإنسانية.
وأحداث التاريخ يمكنها هي الأخرى أن تساهم في تحديد مسار ما بعدها. وكم من أحداث الماضي كان منها أن تجعل التاريخ ينمو في اتجاه آخر، ويتساءل المؤلف: «ماذا لو كان نابليون قد انتصر في معركة واترلو ولو أن محاولة اغتيال هتلر قد نجحت ولو أن انجليزيا أو فرنسيا كان هو الذي اكتشف أميركا «العالم الجديد» وليس كريستوف كولومبس.
ما يتم التأكيد عليه في هذا السياق هو عدم الاكتفاء بقراءة «وحيدة النظرة» إلى الماضي. هكذا ينبغي مثلا لأولئك الذي يحاول استقراء مستقبل الطاقة في أوروبا أن يدرك أن الأوروبيين كانوا قد عرفوا مرحلتين انتقاليتين في تاريخهم الحديث مع ميدان الطاقة. الأولى في نهاية القرن الثامن عشر عندما أدّى التصنيع إلى انحسار الغابات واستخدام الفحم مع اختراع الآلة البخارية. والمرحلة الثانية كانت في بدايات القرن العشرين مع اكتشاف حقول النفط. في هاتين المرحلتين استغرق «الانتقال» من حالة إلى أخرى حوالي 50 سنة. وهذه الفترة هي التي يحددها المؤلف بالنسبة للمرحلة الانتقالية الحالية المترتبة على ثورة المعلوماتية والاتصال الرقمي.
«قراءة المستقبل» تتطّلب بالنتيجة، كما يرى المؤلف، توفّر شرطين أساسيين هما «الحزم والمخيلة». فبدون مخيلة، لا يمكن تصور إلا أشكال مستقبلية تشابه الحاضر القائم،هذا إذا لم يتم تشويه هذا الحاضر. ولكن دون حزم، يغدو المستقبل، كما يتم رسمه، مجموعة من التهويمات التي لا تجد سندها في الواقع. ومنهج البحث المستقبلي لا يمكن أن يكون سلسلة من المعلومات والحسابات ولكن مراحل تتطلّب «تشغيل المخيلة» واللجوء إلى «المحاكمة العقلية».
ويستوجب استقراء المستقبل أيضا ثقافة واسعة ومعارف مهنية متأصّلة بحيث يتم استخدام مختلف مشارب البحث. ذلك أنه لا يمكن تصوّر «استشراف ملامح المستقبل» بالاعتماد فقط على معطيات اقتصادية أو تقنية أو سياسية. ولا يكفي في هذا الإطار عمل «الهواية» بل لا بد من «الاحتراف» من أجل محاولة فهم توجهات المستقبل بكل تنوعها. وينتهي المؤلف إلى القول: «إذا نظرنا نحو المستقبل بجدية لا بد أن نفهم أنه مفتوح لاحتمالات عديدة. ولا ينفع في شيء أن نراه ملبّدا بالغيوم ذلك أن المستقبل سوف تصيغه أفعال الأفراد والجماعات وعليهم جميعا تصميم صورته». وينتهي إلى القول: «القرن الحادي والعشرون هو قرن مفتوح لكنه يضع الإنسانية أمام مجموعة من التحديات الجديدة».
استمرار أم قطيعة
يستخدم المهتمون باستقراء المستقبل الكثير من التعبيرات الشائعة مثل «منعطف» و«تسارع التاريخ» و«الانحطاط» و«الكارثة» و«البقاء» و«التهديد» و«التدمير»، وتعبيرات أخرى عديدة مأخوذة من مختلف أشكال النشاط الإنساني، لكنها مأخوذة أيضا من التاريخ «المضطرب» الذي عرفته الإنسانية خلال القرن العشرين. لكن المؤشرات كثيرة أيضا وخلاصة دراسات المهتمين بالمستقبل تصبّ كلها في القول أن القرن الحادي والعشرين قد يشهد هو الآخر «زيادة المخاطر».
ما يجمع عليه المختصون والخبراء هو أن القرن العشرين كان «رهيبا» أكثر من القرون التي سبقته حيث أنه شهد حربين كونيتين وسلسلة طويلة من المجازر دفعت إلى توصيفه أنه «القرن الأكثر سوادا والأكثر عنفا في تاريخ الإنسانية. لكن هذا لا يمنع من الإشارة أنه كان القرن الذي شهد تناقصا كبيرا في وفيّات الأطفال وزيادة هامة في سنوات العمر.
وعلى مستوى العنف العادي بدأ القرن الحادي والعشرين في مسار «استمرارية» ما كانت قد عرفته العقود الأخيرة من القرن العشرين. ذلك مع تدويل الإرهاب في ظل العولمة واستمرار العنف في بعض «النقاط الساخنة»، خاصة في فلسطين وبعض مناطق آسيا وأميركا اللاتينية. ويركّز المؤلف على القول أن الملفين اللذين يثيران أكبر درجة من القلق في العقود القادمة من هذا القرن الحادي والعشرين، هما «مرجل الشرق الأوسط من فلسطين إلى كابول وإلى إسلام آباد» و«تصاعد المآسي في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء».
وفي المحصلة يحدد المؤلف سمتين أساسيتين يبدأ فيهما القرن الحادي والعشرين. فمن جهة، لا يمكن القول أن المعطيات الخاصة ببقاء الإنسانية ليست مختلفة إلى حد كبير عن تلك التي كانت سائدة منذ قرنين من الزمن. ومن جهة أخرى، لم تترتب حتى الآن على التغيّر المناخي سوى بعض الآثار الثانوية وهناك ما يسمح بالقول أنه يمكن الحد من هذه الآثار عندما سيقتنع البشر بمدى حقيقة وخطورة ما تمثله هذه الظاهرة.
لكن رغم هذا يرى المؤلف أن مصدر الخطر الكبير يتمثل في الطريقة «الجديدة» لرؤية العالم والتي لا تشترك في شيء مع القناعات التي سمحت في الماضي ـ بالنسبة للغرب على الأقل ـ بالسيطرة على المغامرة الإنسانية.
العالم يواجه تحدي إنشاء حكومة لإدارة شؤونه
إن تحديات كبرى ثلاثة يبدو أنها سوف
تكون الأكثر بروزا والأكثر
حسما فيما يخص مستقبل البشرية وهي تحدّي التغير المناخي وعواقبه، وتحدي ضبط آليات عمل العولمة، وتحدي الوصول إلى نوع من
«الحكومة السياسية الدولية».
ويؤكد الخبراء أن تجاوز سخونة الأرض في أفق نهاية هذا القرن لأكثر من درجتين سيكون خطيرا جدا. وفوضى اقتصاد العولمة يهدد بأزمات متتابعة مثل تلك التي يعرفها العالم اليوم ، وعالمية الإرهاب ومختلف أشكال الجريمة المنظمة يتطلب ردا دوليا منسّقا، والوصول إلى ما يسميه المؤلف بـ «أخلاقيات القرن الحادي والعشرين».
ثم إن الجيل الحالي عليه أن يترك طريق التنمية والبقاء مفتوحا أمام الأجيال اللاحقة، وهذا يتطلب من الجميع في أوروبا وأميركا والدول الصاعدة والشرق الأوسط الالتزام بذلك . تجهد الإنسانية منذ قرون طويلة من أجل إعداد منظومة من القواعد التي تسمح بضبط الحياة المشتركة وتنظيم التبادل بين الدول والمجتمعات والحضارات.
وبالنسبة للقرن الحادي والعشرين يرى مؤلف هذا الكتاب أن المهمة الأولى التي سيكون على البشر المعنيين القيام بها هي التصدّي للتحديات الكبرى الثلاثة التي يبدو أنها سوف تكون الأبرز خلال هذا القرن، وهي تحدي التغيّر المناخي وما قد يجلبه من تبدّل على مستوى البيئة، وتحدي الوصول إلى آليات ضبط اقتصادي للعولمة بعد التشويش الكبير الذي خلقته الأزمة المالية العالمية التي انطلقت في خريف عام 2008، والتحدي الثالث يجده المؤلف في الوصول إلى نوع من «الحكومة السياسية الدولية» لإدارة شؤون العالم.
التحدي الأول يتفق حوله الجميع تقريبا، ذلك أنه إذا لم ينجح البشر في تقليص كمية الغازات السامة الصادرة عن الصناعة إلى النصف من الآن وحتى حوالي نهاية القرن الحالي، الحادي والعشرين، فإن هذا يعني زيادة معدّل سخونة الأرض بأكثر من درجتين مما ستكون له نتائج في غاية الخطورة على البشرية. وإذا كان الخطاب السائد اليوم يدعو إلى الاعتقاد أنه من السهل الوصول إلى الحل فإن الواقع يشير إلى وجود تباين كبير، وتعارض أحيانا، حول السياسات التي ينبغي اتباعها بين مختلف بلدان العالم.
ضبط اقتصاد السوق
ويخص التحدي الثاني عيوب آليات عمل اقتصاد السوق. ويبدو كنظرة أولى أن هذه الصيغة من التنظيم الاقتصادي هي الأفضل، أو الأقل سوءً بين الصيغ التي توصلت إليها المجتمعات الإنسانية. فبفضل الأسواق «تستطيع القطط ؟الهررة- أن تصطاد الفئران» حسب تعبير دينج زياو بينغ القائد الصيني الذي وجّه بلاده نحو اقتصاد السوق بعد فترة ماو تسي تونغ. وبفضل اقتصاد السوق أيضا توسعت الرقعة التي طالها الازدهار الاقتصادي واستفاد منه مئات ملايين البشر في الصين والهند وغيرهما. لكن هذا لا يمنع واقع أن اقتصاد السوق يعاني، كما يقول المؤلف، من أشكال خلل كبيرة فيما يتعلق بعمل البورصات مثلا.
أما تحدي الوصول إلى نوع من «الحكومة السياسية الدولية» فهو يعبر عن مشكلة قديمة قدم العالم نفسه والذي لم يعرف في الماضي سوى حلول مؤقتة «شاملة» في زمن السلام. هناك اليوم من يدعو إلى توسيع إطار مجلس الأمن الدولي بحيث يضم ألمانيا والبرازيل واليابان وجنوب إفريقيا. وهم الإجابات الكاملة
بكل الحالات إن النجاح في التصدّي لهذا التحدي الثالث ستكون له آثاره الإيجابية على صعيد مكافحة الإرهاب والمافيا والحروب الأهلية وكل أشكال الجريمة المنظّمة. مع ذلك يبقى الوصول إلى مثل هذا صعب المنال ولن يتم إلا على المدى الطويل، هذا على عكس الفكرة السائدة لدى الرأي العام في مختلف البلدان.
وهم الإجابات الكاملة
بكل الحالات يرى المؤلف أنه ينبغي على الجميع أن يتخلّصوا من وهم الوصول إلى «إجابات كاملة» على التحديات المطروحة. ذلك أن العالم يعيش مرحلة في غاية التعقيد وهي مرشحة للتعقيد أكثر خلال العقود القادة في أفق وصول عدد سكان هذا العالم إلى حوالي 9 مليار نسمة وبوجود ملايين بل مليارات السلع والمنتجات الزراعية والصناعية والتقدّم المستمر للمعارف العلمية وللإنجازات التكنولوجية. هكذا ومهما كانت قوة «الحواسيب» التي نمتلكها فإنه من المستحيل والخطير تصوّر إحكام السيطرة على المنظومة الاقتصادية الأرضية.
ويحذر المؤلف في هذا السياق مما يسميه «الخطر الإيديولوجي» الذي يدفع نحو التطرّف، خاصة أن الإيديولوجيات المتطرفة يمكنها أن تنبعث في أية لحظة انطلاقا من بؤرة تزمّت قومي أو مشاعر عنصرية حيال الآخر. وليس هناك اليوم أية إيديولوجية مهما كانت طبيعتها، تستطيع أن تجمع السواد الأعظم من البشر تحت رايتها من أجل السيطرة على تحديات القرن الحادي والعشرين. وفي إطار الواقع الحالي تتبادل الدول الاعتراف بسيادة كل منها وتتبادل السفراء وتوقّع اتفاقيات السلام وتتخذ مختلف الإجراءات التي تشجّع المبادلات الاقتصادية والتجارية.
مع ذلك إذا جرى خرق الالتزامات التي كانت الدول قد أقرّت بها فإنه ليس هناك ما يرغمها على احترامها سوى قمع الدولة المعنية بالحرب أو بالتهديد الذي يمارسه عليها تحالف مجموعة من الدول الأقوى. وكان الغرب قد عرف العديد من النصوص حتى الحرب العالمية الأولى بهدف أن تلتزم بها الدول المعنية فيها. لكن الرئيس الأميركي ويلسون بعد تلك الحرب الكونية الأولى دعا إلى المحافظة على السلام الدولي على أساس المسؤولية الجماعية للدول. هكذا قامت جمعية الأمم التي آلت إلى الفشل. لكن تلك المحاولة «الفاشلة» الأولى لم تمنع الأخذ بنفس الفكرة عندما قامت منظمة الأمم المتحدة عام 1945 والتي يزيد عمرها اليوم عن 60 عاما.
قبول تعدد الثقافات
وعرفت العقود الأخيرة أيضا توقيع عدد من المواثيق التي تقبل فيها الثقافات المتنوعة. وتأسست قبل فترة ليست بعيدة محكمة الجنايات الدولية للنظر في جرائم الحرب ومجازر الإبادة. وجرى ضمن نفس الإطار القول ب«حق التدخل الإنساني» من أجل حماية المدنيين في هذا البلد أو ذاك. مع ذلك لا بد من التذكير أن الولايات المتحدة الأميركية، القوة الأكبر في عالم اليوم، لم توقّع على النص الخاص بمحكمة الجنايات الدولية، وأن قوات الأمم المتحدة فشلت غالبا في تحقيق الأهداف التي تدخلت من أجل تحقيقها. كذلك ورغم وجود منظمة العفو الدولية، لا تزال المجازر وعمليات التعذيب موجودة في العالم.
وهناك أيضا ظاهرة تعاظم العنف. وعدد المشاكل التي تتطلّب تعاونا دوليا يتزايد يوما بعد يوم. وهذا كله سوف يستدعي مواجهته مستقبلا صياغة نوع من أنماط السلوك يطلق عليها المؤلف تسمية «أخلاقيات القرن الحادي والعشرين»، والتي تتكون، كما يقدمها، من عدة عناصر أساسية. الأول منها هو «البحث عن معرفة المعلومات الخاصة بمختلف القوى الفاعلة ومعرفة مفاهيمها فيما هو أبعد من الخطاب الرسمي الذي تردده». وتتم الإشارة هنا إلى أكبر الدبلوماسيين خلال الفترة القريبة المنصرمة، من أمثال هنري كسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، ركّزوا دائما على ضرورة فهم القوى الفاعلة الأخرى، فهم الآخر. هذا الفهم يغدو ضروريا أكثر في قرن العولمة الجاري.
والعنصر الثاني الهام «المطلوب» في أخلاقيات القرن الحادي والعشرين يحدده المؤلف ب«تجنّب الأوامر القاطعة التي ترفض كل مصالحة لا تستجيب لإرادة أولئك الذين كانوا قد أصدروا تلك الأوامر». إن مثل هذا المنطق له دائما نتائج سلبية ولا يتوافق أبدا مع مطلب «التأمّل المسؤول» في مستقبل القرن الحادي والعشرين الذي ينبغي أن يكون «قرن المصالحات الكبرى» إذا أراد أن يتجنب النزاعات والحروب المدمّرة.
المناخ والتعاون الدولي
يحمل عنوان الفصل الأخير من هذا الكتاب عنوان: «النضال ضد التغيّر المناخي: التعاون الدولي الذي لا بديل عنه». ويعتبر المؤلف أن «التغير المناخي» هو التحدّي الأكبر في القرن الحادي والعشرين. وهذا يولّد مسؤولية ملقاة على عاتق الأجيال الحالية، إنها مسؤولية أن يتركوا للأجيال القادمة وضعا يسمح لها بمتابعة نموّها ووسائل بقائها. وكل المفاوضات الجارية بين الدول تقوم على أساس هذه القاعدة.
وبعد أن يتعرّض المؤلف للبحث المسهب في مسؤوليات الحكومة يقوم بتحليل ذي طابع إقليمي فيما يتعلق بسياسات التصدي ل«سخونة الأرض». فعلى صعيد الاتحاد الأوروبي هناك خطة لتقليص كمية الغازات السامة والضارّة بالنسبة لطبقات الجو وللبيئة بنسبة 20 بالمائة في أفق عام 2020.
والمعضلة الكبرى التي تلوح في الأفق بالنسبة للاتحاد الأوروبي تتمثل في أن لا يطرح نفسه ك«من يعطي الدروس للآخرين» أو «من يعلّم الفضيلة»، ولكن بالمقابل أن لا يقبل أيضا أن يكون «ضحية» تدفع ثمنا كبيرا من أجل تأمين رفاهية العالم. والولايات المتحدة لم توقّع على اتفاق كيوتو، وهذا يعود أكثر إلى رفضها قبول الانصياع إلى واجبات متعددة الأطراف باعتبارها القوة الدولية الأكبر مما هو إلى اعتراضها على مضمون اتفاقية كيوتو نفسها.
لكن هذا لا يمنع واقع أن الرأي العام الأميركي قد فهم خطورة التغيّر المناخي وهناك عدة مبادرات جرى اتخاذها على مستوى الولايات المختلفة، ومراكز الأبحاث الأميركية أطلقت برامج بحث طموحة. والمهم هو أن تقبل الإدارة الأميركية الحد من إصدار الغازات السامة من مصانعها اعتبارا من عام 2012 كما سيفعل الأوروبيون وليس اعتبارا من عام 2020 كما أعلنت مسبقا.
تأمين الطاقة
وعلى الصين والهند والبرازيل أن تلعب دورا في تقليص حجم الغازات الصناعية المنطلقة إلى الجو عبر تحديث منشآتها القديمة والبحث عن مصادر طاقة «نظيفة». وكان تقليص الإنتاج الصناعي الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي قد قلل كثيرا من الغاز المنطلق من مصانعها خلال العقد الأخير من القرن العشرين.
ويحدد المؤلف القول إن هناك مسؤوليات كبيرة تقع على عاتق بلدان الشرق الأوسط وليس أقلّها لإدارة احتياطاتها من مصادر الطاقة لتأمين مستقبل أجيالها القادمة، وتسهيل استثمار حقول الطاقة كي لا يتباطأ النمو العالمي خلال فترة الانتقال إلى طاقة «غير ملوّثة»، وضبط الأسعار. وفي المحصلة النهائية يصل المؤلف إلى القول: «القرن الحادي والعشرون ليس قرنا كغيره من القرون، ولكنه أيضا قرنا انتقاليا إلى حقبة قادمة».
المؤلف في سطور
عمل جاك لوسورن، مؤلف هذا الكتاب، خلال سنوات أستاذا للاقتصاد والاحصاء الصناعي وشغل عدة مناصب وظيفية عليا. وهو أحد الباحثين المشهود لهم بالكفاءة على الصعيد الأوروبي ، بل والعالمي، فيما يتعلق بمجال دراسات استشراف المستقبل. ذلك منذ أن أصدر في عام 1981 كتابه «دروب المستقبل الألف» الذي تساءل فيه آنذاك عن المستقبل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للعالم حتى نهاية القرن العشرين.
من كتبه أيضا :»الديمقراطية والسوق ومنظومة الإدارة: أي مستقبل؟» و«أية طاقة من أجل الغد» و»ما بعد الشيوعية» و»النموذج ـ الموديل ـ الفرنسي : بين العظمة والانحطاط»... الخ.
ويؤكد الخبراء أن تجاوز سخونة الأرض في أفق نهاية هذا القرن لأكثر من درجتين سيكون خطيرا جدا. وفوضى اقتصاد العولمة يهدد بأزمات متتابعة مثل تلك التي يعرفها العالم اليوم ، وعالمية الإرهاب ومختلف أشكال الجريمة المنظمة يتطلب ردا دوليا منسّقا، والوصول إلى ما يسميه المؤلف بـ «أخلاقيات القرن الحادي والعشرين».
ثم إن الجيل الحالي عليه أن يترك طريق التنمية والبقاء مفتوحا أمام الأجيال اللاحقة، وهذا يتطلب من الجميع في أوروبا وأميركا والدول الصاعدة والشرق الأوسط الالتزام بذلك . تجهد الإنسانية منذ قرون طويلة من أجل إعداد منظومة من القواعد التي تسمح بضبط الحياة المشتركة وتنظيم التبادل بين الدول والمجتمعات والحضارات.
وبالنسبة للقرن الحادي والعشرين يرى مؤلف هذا الكتاب أن المهمة الأولى التي سيكون على البشر المعنيين القيام بها هي التصدّي للتحديات الكبرى الثلاثة التي يبدو أنها سوف تكون الأبرز خلال هذا القرن، وهي تحدي التغيّر المناخي وما قد يجلبه من تبدّل على مستوى البيئة، وتحدي الوصول إلى آليات ضبط اقتصادي للعولمة بعد التشويش الكبير الذي خلقته الأزمة المالية العالمية التي انطلقت في خريف عام 2008، والتحدي الثالث يجده المؤلف في الوصول إلى نوع من «الحكومة السياسية الدولية» لإدارة شؤون العالم.
التحدي الأول يتفق حوله الجميع تقريبا، ذلك أنه إذا لم ينجح البشر في تقليص كمية الغازات السامة الصادرة عن الصناعة إلى النصف من الآن وحتى حوالي نهاية القرن الحالي، الحادي والعشرين، فإن هذا يعني زيادة معدّل سخونة الأرض بأكثر من درجتين مما ستكون له نتائج في غاية الخطورة على البشرية. وإذا كان الخطاب السائد اليوم يدعو إلى الاعتقاد أنه من السهل الوصول إلى الحل فإن الواقع يشير إلى وجود تباين كبير، وتعارض أحيانا، حول السياسات التي ينبغي اتباعها بين مختلف بلدان العالم.
ضبط اقتصاد السوق
ويخص التحدي الثاني عيوب آليات عمل اقتصاد السوق. ويبدو كنظرة أولى أن هذه الصيغة من التنظيم الاقتصادي هي الأفضل، أو الأقل سوءً بين الصيغ التي توصلت إليها المجتمعات الإنسانية. فبفضل الأسواق «تستطيع القطط ؟الهررة- أن تصطاد الفئران» حسب تعبير دينج زياو بينغ القائد الصيني الذي وجّه بلاده نحو اقتصاد السوق بعد فترة ماو تسي تونغ. وبفضل اقتصاد السوق أيضا توسعت الرقعة التي طالها الازدهار الاقتصادي واستفاد منه مئات ملايين البشر في الصين والهند وغيرهما. لكن هذا لا يمنع واقع أن اقتصاد السوق يعاني، كما يقول المؤلف، من أشكال خلل كبيرة فيما يتعلق بعمل البورصات مثلا.
أما تحدي الوصول إلى نوع من «الحكومة السياسية الدولية» فهو يعبر عن مشكلة قديمة قدم العالم نفسه والذي لم يعرف في الماضي سوى حلول مؤقتة «شاملة» في زمن السلام. هناك اليوم من يدعو إلى توسيع إطار مجلس الأمن الدولي بحيث يضم ألمانيا والبرازيل واليابان وجنوب إفريقيا. وهم الإجابات الكاملة
بكل الحالات إن النجاح في التصدّي لهذا التحدي الثالث ستكون له آثاره الإيجابية على صعيد مكافحة الإرهاب والمافيا والحروب الأهلية وكل أشكال الجريمة المنظّمة. مع ذلك يبقى الوصول إلى مثل هذا صعب المنال ولن يتم إلا على المدى الطويل، هذا على عكس الفكرة السائدة لدى الرأي العام في مختلف البلدان.
وهم الإجابات الكاملة
بكل الحالات يرى المؤلف أنه ينبغي على الجميع أن يتخلّصوا من وهم الوصول إلى «إجابات كاملة» على التحديات المطروحة. ذلك أن العالم يعيش مرحلة في غاية التعقيد وهي مرشحة للتعقيد أكثر خلال العقود القادة في أفق وصول عدد سكان هذا العالم إلى حوالي 9 مليار نسمة وبوجود ملايين بل مليارات السلع والمنتجات الزراعية والصناعية والتقدّم المستمر للمعارف العلمية وللإنجازات التكنولوجية. هكذا ومهما كانت قوة «الحواسيب» التي نمتلكها فإنه من المستحيل والخطير تصوّر إحكام السيطرة على المنظومة الاقتصادية الأرضية.
ويحذر المؤلف في هذا السياق مما يسميه «الخطر الإيديولوجي» الذي يدفع نحو التطرّف، خاصة أن الإيديولوجيات المتطرفة يمكنها أن تنبعث في أية لحظة انطلاقا من بؤرة تزمّت قومي أو مشاعر عنصرية حيال الآخر. وليس هناك اليوم أية إيديولوجية مهما كانت طبيعتها، تستطيع أن تجمع السواد الأعظم من البشر تحت رايتها من أجل السيطرة على تحديات القرن الحادي والعشرين. وفي إطار الواقع الحالي تتبادل الدول الاعتراف بسيادة كل منها وتتبادل السفراء وتوقّع اتفاقيات السلام وتتخذ مختلف الإجراءات التي تشجّع المبادلات الاقتصادية والتجارية.
مع ذلك إذا جرى خرق الالتزامات التي كانت الدول قد أقرّت بها فإنه ليس هناك ما يرغمها على احترامها سوى قمع الدولة المعنية بالحرب أو بالتهديد الذي يمارسه عليها تحالف مجموعة من الدول الأقوى. وكان الغرب قد عرف العديد من النصوص حتى الحرب العالمية الأولى بهدف أن تلتزم بها الدول المعنية فيها. لكن الرئيس الأميركي ويلسون بعد تلك الحرب الكونية الأولى دعا إلى المحافظة على السلام الدولي على أساس المسؤولية الجماعية للدول. هكذا قامت جمعية الأمم التي آلت إلى الفشل. لكن تلك المحاولة «الفاشلة» الأولى لم تمنع الأخذ بنفس الفكرة عندما قامت منظمة الأمم المتحدة عام 1945 والتي يزيد عمرها اليوم عن 60 عاما.
قبول تعدد الثقافات
وعرفت العقود الأخيرة أيضا توقيع عدد من المواثيق التي تقبل فيها الثقافات المتنوعة. وتأسست قبل فترة ليست بعيدة محكمة الجنايات الدولية للنظر في جرائم الحرب ومجازر الإبادة. وجرى ضمن نفس الإطار القول ب«حق التدخل الإنساني» من أجل حماية المدنيين في هذا البلد أو ذاك. مع ذلك لا بد من التذكير أن الولايات المتحدة الأميركية، القوة الأكبر في عالم اليوم، لم توقّع على النص الخاص بمحكمة الجنايات الدولية، وأن قوات الأمم المتحدة فشلت غالبا في تحقيق الأهداف التي تدخلت من أجل تحقيقها. كذلك ورغم وجود منظمة العفو الدولية، لا تزال المجازر وعمليات التعذيب موجودة في العالم.
وهناك أيضا ظاهرة تعاظم العنف. وعدد المشاكل التي تتطلّب تعاونا دوليا يتزايد يوما بعد يوم. وهذا كله سوف يستدعي مواجهته مستقبلا صياغة نوع من أنماط السلوك يطلق عليها المؤلف تسمية «أخلاقيات القرن الحادي والعشرين»، والتي تتكون، كما يقدمها، من عدة عناصر أساسية. الأول منها هو «البحث عن معرفة المعلومات الخاصة بمختلف القوى الفاعلة ومعرفة مفاهيمها فيما هو أبعد من الخطاب الرسمي الذي تردده». وتتم الإشارة هنا إلى أكبر الدبلوماسيين خلال الفترة القريبة المنصرمة، من أمثال هنري كسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، ركّزوا دائما على ضرورة فهم القوى الفاعلة الأخرى، فهم الآخر. هذا الفهم يغدو ضروريا أكثر في قرن العولمة الجاري.
والعنصر الثاني الهام «المطلوب» في أخلاقيات القرن الحادي والعشرين يحدده المؤلف ب«تجنّب الأوامر القاطعة التي ترفض كل مصالحة لا تستجيب لإرادة أولئك الذين كانوا قد أصدروا تلك الأوامر». إن مثل هذا المنطق له دائما نتائج سلبية ولا يتوافق أبدا مع مطلب «التأمّل المسؤول» في مستقبل القرن الحادي والعشرين الذي ينبغي أن يكون «قرن المصالحات الكبرى» إذا أراد أن يتجنب النزاعات والحروب المدمّرة.
المناخ والتعاون الدولي
يحمل عنوان الفصل الأخير من هذا الكتاب عنوان: «النضال ضد التغيّر المناخي: التعاون الدولي الذي لا بديل عنه». ويعتبر المؤلف أن «التغير المناخي» هو التحدّي الأكبر في القرن الحادي والعشرين. وهذا يولّد مسؤولية ملقاة على عاتق الأجيال الحالية، إنها مسؤولية أن يتركوا للأجيال القادمة وضعا يسمح لها بمتابعة نموّها ووسائل بقائها. وكل المفاوضات الجارية بين الدول تقوم على أساس هذه القاعدة.
وبعد أن يتعرّض المؤلف للبحث المسهب في مسؤوليات الحكومة يقوم بتحليل ذي طابع إقليمي فيما يتعلق بسياسات التصدي ل«سخونة الأرض». فعلى صعيد الاتحاد الأوروبي هناك خطة لتقليص كمية الغازات السامة والضارّة بالنسبة لطبقات الجو وللبيئة بنسبة 20 بالمائة في أفق عام 2020.
والمعضلة الكبرى التي تلوح في الأفق بالنسبة للاتحاد الأوروبي تتمثل في أن لا يطرح نفسه ك«من يعطي الدروس للآخرين» أو «من يعلّم الفضيلة»، ولكن بالمقابل أن لا يقبل أيضا أن يكون «ضحية» تدفع ثمنا كبيرا من أجل تأمين رفاهية العالم. والولايات المتحدة لم توقّع على اتفاق كيوتو، وهذا يعود أكثر إلى رفضها قبول الانصياع إلى واجبات متعددة الأطراف باعتبارها القوة الدولية الأكبر مما هو إلى اعتراضها على مضمون اتفاقية كيوتو نفسها.
لكن هذا لا يمنع واقع أن الرأي العام الأميركي قد فهم خطورة التغيّر المناخي وهناك عدة مبادرات جرى اتخاذها على مستوى الولايات المختلفة، ومراكز الأبحاث الأميركية أطلقت برامج بحث طموحة. والمهم هو أن تقبل الإدارة الأميركية الحد من إصدار الغازات السامة من مصانعها اعتبارا من عام 2012 كما سيفعل الأوروبيون وليس اعتبارا من عام 2020 كما أعلنت مسبقا.
تأمين الطاقة
وعلى الصين والهند والبرازيل أن تلعب دورا في تقليص حجم الغازات الصناعية المنطلقة إلى الجو عبر تحديث منشآتها القديمة والبحث عن مصادر طاقة «نظيفة». وكان تقليص الإنتاج الصناعي الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي قد قلل كثيرا من الغاز المنطلق من مصانعها خلال العقد الأخير من القرن العشرين.
ويحدد المؤلف القول إن هناك مسؤوليات كبيرة تقع على عاتق بلدان الشرق الأوسط وليس أقلّها لإدارة احتياطاتها من مصادر الطاقة لتأمين مستقبل أجيالها القادمة، وتسهيل استثمار حقول الطاقة كي لا يتباطأ النمو العالمي خلال فترة الانتقال إلى طاقة «غير ملوّثة»، وضبط الأسعار. وفي المحصلة النهائية يصل المؤلف إلى القول: «القرن الحادي والعشرون ليس قرنا كغيره من القرون، ولكنه أيضا قرنا انتقاليا إلى حقبة قادمة».
المؤلف في سطور
عمل جاك لوسورن، مؤلف هذا الكتاب، خلال سنوات أستاذا للاقتصاد والاحصاء الصناعي وشغل عدة مناصب وظيفية عليا. وهو أحد الباحثين المشهود لهم بالكفاءة على الصعيد الأوروبي ، بل والعالمي، فيما يتعلق بمجال دراسات استشراف المستقبل. ذلك منذ أن أصدر في عام 1981 كتابه «دروب المستقبل الألف» الذي تساءل فيه آنذاك عن المستقبل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للعالم حتى نهاية القرن العشرين.
من كتبه أيضا :»الديمقراطية والسوق ومنظومة الإدارة: أي مستقبل؟» و«أية طاقة من أجل الغد» و»ما بعد الشيوعية» و»النموذج ـ الموديل ـ الفرنسي : بين العظمة والانحطاط»... الخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق