حلف شمال الأطلسي
بالرغم من ان فكرة إنشاء حلف عسكري كانت
تدور في ذهن ترومان الذي راح ينظر إلى أن سياسته لابد من تدعيمها بتحالفات عسكرية
مع أصدقائه لتحقيق مستلزمات إستراتيجية في مواجهة السوفيت. وبالرغم من السيطرة
الأميركية المطلقة على حلف الأطلسي، إلا أن إنشاءه لم تكن بمبادرة من الإدارة
الأميركية وإنما من الدول الأوروبية بدافع من التهديدات الخارجية التي تتخوف منها والتي اضطرتها للجوء إلى أميركا.
لقد كانت بريطانيا وفرنسا في طليعة
الدول الغربية المتخوفة من الخطر السوفيتي، لذلك ارتأتا إنشاء حلف يمكن من خلاله
تحديد النفوذ السوفيتي المتزايد في القارة الأوروبية، وتقوية مركزها في أوروبا
خاصة والعالم عموما. وقد عرضت هاتان الدولتان على دول بلجيكا وهولندا وللكسمبورغ
فكرة ابرام معاهدة سياسية بينها. وتم بالفعل في مؤتمر بروكسل في 17 آذار 1948 الذي
أدخل التحالف العسكري ضمن هذه المعاهدة(7) باعتباره ضرورة ملحة لتحقيق أهدافها.
ثم بدأت هذه الدول مفاوضاتها مع الحكومة
الأميركية بغية أشراكها في المعاهدة لتنظيم دفاعات عسكرية قوية لأوروبا الغربية، فوافقت
الإدارة الأميركية على الدخول في هذه المعاهدة.
بعد الموافقة الأميركية بدأت الدول
الخمس المجتمعة في بروكسل تسعى لايجاد ميثاق عسكري يتولى مهمة حماية أمن شمال الأطلسي،
وعرضت هذه الفكرة على الدول الغربية الأخرى، فوافقت كندا في 29 تشرين الثاني 1948
على الانضمام إلى هذا الميثاق. كما عرضت تلك الدول فكرة التحالف العسكري على كل من
النرويج والدانمارك وآيسلنده والبرتغال وايطاليا وذلك في 15 آذار 1959، وانتهت
المفاوضات في النهاية بإبرام معاهدة حلف شمال الأطلسي في واشنطن في 4 نيسان 1949.
وفي عام 1952 انضمت إلى الحلف تركيا
واليونان.
ثم انضمت في عام 1955 ألمانيا الغربية
ليصبح عدد دول الحلف 14 دولة.
ان المنطقة العسكرية التي تخضع لحلف الأطلسي
وتدخل ضمن ساحة عملياته الحربية تمتد من رأس "نورد كاب" حتى البحر
المتوسط، ومن الشمال إلى الجنوب على خمسة آلاف كيلومتر. وهو مقسم إلى ثلاث مناطق:
المنطقة الشمالية: وتضم دول السويد
وهولندا والدانمارك.
المنطقة الوسطى: وتضم دول وسط أوروبا.
المنطقة الجنوبية: وتضم اليونان وتركيا
وايطاليا.
وتعتبر جميع تلك الأراضي محمية من قبل
الحلف بالإضافة إلى أميركا الشمالية والبحر المتوسط وكافة الجزر الخاضعة للدول الأعضاء.
يعتمد حلف شمال الأطلسي في تقدير قوته
العسكرية على نظام خاص بيه فهو لا يدخل القوات الوطنية لكل دولة من اعضائة ضمن قوة
الحلف العسكرية. في حين ان هذه القوى سوف تضاف إلى مجمل قواته في حالات الحرب.
يولي حلف الأطلسي اهتمامه المتزايد
للسلاحين التقليدي والنووي ويسعى جاهدا إلى زيادة فاعليتها وكفاءتها، وذلك تمشيا
مع رغبة الولايات المتحدة التي تسيطر على الحلف سيطرة مطلقة. ونتيجة لهذه السيطرة
الأميركية، اصبحت سياسة الحلف العامة وطبيعة المهام الموكلة إليه، تسير حسب وجهات
نظر واشنطن، أي أن الحلف أصبح أحد أساليب السياسة الأميركية. وهذا ما يتضح من خلال
الجانبين العسكري والسياسي. فقد جعلت الإدارة الأميركية قيادة الأسلحة النووية
والتقليدية من اختصاصها فقط. أي أن قرار الاستخدام الفعلي للأسلحة الخاضعة للحلف
يجب أن يكون صادرا من الدوائر الأميركية وحدها، دون أن تكون هناك مشاركة من قبل
بقية الأعضاء ، كما أن الولايات المتحدة وزعت الأسلحة النووية والتقليدية على
مناطق الحلف بالشكل الذي يتناسب مع إستراتيجيتها في مواجهة الكتلة الشيوعية، وذلك
حسب الأسلوبين التاليين:ـ
اعطت اهتماما كبيرا من حيث القوة
العسكرية (النووية والتقليدية) لوسط أوروبا وخصوصاً ألمانيا الغربية باعتبارها
أكثر المناطق حساسية في خط المواجهة مع السوفيت، لذلك فإن دورها في مواجهة التوسع
السوفيتي أكثر أهمية من غيرها.
جعلت المنطقة الجنوبية من الحلف (تركيا
واليونان) تتميز برجاحة كفة الأسلحة التقليدية على النووية، لأن دورها ينحصر
بالدرجة الأولى في مواجهة الزحف البري السوفيتي، ولأن خطر الأسلحة النووية على هذه
المنطقة ليس بنفس درجة الخطورة التي تهدد المنطقتين الشمالية والوسطى. وعموما فإن
هذه المنطقة تعتبر أقل المناطق تهديدا من قبل الزحف الشيوعي.
وبالرغم من كون طريقة التوزيع هذه لم
تتعارض مع سياسة الدول الأعضاء في الحلف، على اعتبار انها توفر لهم الحماية
الكافية ضد خطر التوسع السوفيتي، إلا أنها في الحقيقة أحد أساليب الاستراتيجية
الأميركية ومؤشر على احتفاظ الولايات المتحدة وحدها بحق التخطيط وتحديد المهام.
إن السيطرة الأميركية على حلف شمال
الأطلسي أدت إلى تأزم العلاقة بين الدول الأوروبية وبين الولايات المتحدة، فلم ترق
هذه السياسة الأميركية للأعضاء الأوروبيين الذين أثارت سخطهم طريقة تعامل واشنطن
مع الحلف والتي من أبرز معالمها:ـ
استغلت أميركا وضعها العسكري وموقعها الجغرافي
فرسمت على أساسهما إستراتيجيتها العسكرية في مواجهة السوفيت. فقد جعلت من أوروبا
الغربية ساحة مواجهة متقدمة مع الاتحاد السوفيتي في أية حرب محتملة الوقوع، سواء
كانت هذه الحرب تقليدية أو نووية، بفضل القوات الهائلة المرابطة في أوروبا،
والصواريخ النووية المنتشرة على أراضيها.
جعلت الولايات المتحدة الأشراف على الصواريخ
النووية من مسؤوليتها، لذلك فإن المواجهة الفعلية بين الاتحاد السوفيتي وبينها سوف
تنسحب آثارها مباشرة على أوروبا الغربية التي تشكل بموقعها الجغرافي جبهة أمامية
دفاعية لأميركا. وهذا يعني أن أوروبا ستلتهب قبل أن تتدخل أميركا في المواجهة.
تحاول الولايات المتحدة دائما فرض
قناعتها على الدول الأعضاء في الحلف خصوصا فيما يتعلق بالقضايا العسكرية، فهي تطلب
من أعضاء الحلف زيادة نفقتها العسكرية، فهي تطلب من أعضاء الحلف زيادة نفقاتها
العسكرية والسير معها في سياق التسلح بحجة تخفيف التوازن العسكري بين حلف وارسو.
تقف الولايات المتحدة معارضة أية خطوة
سياسية أوروبية لا تناسب توجهاتها الخاصة، ولا تدعم أطماعها التوسعية في حين تطلب
من الدول الأوروبية الاستجابة لمقرراتها السياسية.
سياسة واشنطن هذه تجاه الحلف خلقت أجواء
متشنجة بينها وبين العديد من الدول الأوروبية وقد اتخذ قسم منها مواقف سلبية تجاه
واشنطن بشكل خاص والاطلسي بشكل عام. حيث انسحبت فرنسا من الحلف عام 1966، وازدادت
مطالبة الدانمارك والنرويج بالانسحاب منه، وترفض اسبانيا الدخول فيه لنفس
الأسباب.
أن تشكيلة حلف شمال الأطلسي تتميز من
حيث الأعضاء ومن حيث السياسة المتبعة، بأنها غير متماسكة بالشكل الذي يجعل الأعضاء
يشكلون وحدة سياسية وعسكرية تتعامل مع الأحداث بطريقة مركزية. فالأطلسي من خلال
سياسته لم يجعل الاعضاء ملزمين بتنفيذ كل مقرراته، بل انه ترك لهم ساحة واسعة تتحرك
عليها سياساتهم. وذلك يعود إلى كونه تأسيس على دوافع عسكرية بالدرجة الأولى. ولما
كانت العسكرية تأتي من القرارات السياسية، لذا فانها لم تتوحد بين الأعضاء كما هو
واضح من تحديد كل عضو في الحلف للأسلوب الذي يراه مناسبا لأن يعتمده في حالة وقوع
عدوان على منطقة الحلف.
كما ان اختلاف التوجهات السياسية بين
اعضائه وكونها استعمارية توسعية، تجعل سياساتها تتعارض في كثير من الأحيان داخل
الحلف وتنشأ نتيجة ذلك اختلافات بين اعضائه دون أن يكون للحلف القدرة على حلها او
اتخاذ قرار حاسم بشأنها. ومثال على ذلك، عندما احتلت تركيا قسما من جزيرة قبرص عام
1974، تقدمت اليونان بطلب إلى قيادة الحلف يقضي بضرورة ردع الاعتداء التركي على
قبرص، إلا أن حلف الاطلسي لم يتخذ أي قرار ضد تركيا، فانسحبت اليونان على اثر ذلك
من الجناح العسكري للحلف وقد ترتب على هذه الحادثة نتائج سلبية، حيث تأزمت العلاقة
بين اليونان والولايات المتحدة. فقد طلبت اليونان من الحكومة الأميركية سحب
قواعدها العسكرية من اراضيها على اعتبار أن واشنطن لم تقدم دعمها لليونان، ولم تقف
معها الموقف المناسب، فلم تعترض مطلقا على الحكومة التركية، بل ان علاقاتها استمرت
على طبيعتها، أن لم تكن قد أدادت ارتباطا ووثوقاً.
وبالرغم من كل تلك السلبيات والاخطاء
الموجودة في حلف شمال الأطلسي، إلا انه يبقى اقوي الأحلاف الأميركية التي دخلت
فيها وساهمت في تأسيسها بعد ذلك. فلقد حقق الأطلسي إلى حد كبير العديد من المهام
الموكلة إليه، حيث ساهم في التصدي للسياسة السوفيتية، ولم يتعرض إلى أية هجمة
سوفيتية بفضل القوة الكبيرة التي ركزتها الولايات المتحدة في دوله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق